الجمعة، ٢٤ مايو ٢٠١٣

ماذا فعلنا بطلعــت باشا؟‏!



سوف يقشعر بدنك عندما تقترب من تمثال طلعت حرب باشا‏,‏ وتري هذا الكم من الانتهاك والاستهانة والسخرية بتمثال هذا الرجل . العظيم الذي تجرأ عليه الصبية والغوغاء وشوهوه بهذا الشكل المزري والمهين.
طلعت باشا حرب الذي قال عنه جاك بيرك( إن ميزته الأولي كانت في إدراكه للقوة الكامنة والإمكانات الهائلة التي لم تستغل بعد عند مواطنيه).
طلعت باشا حرب الذي قدم لمصر البنك الأهلي وبنك مصر ومصر للطباعة والورق وحلج الأقطان وصناعة السينما والمصرية العقارية وبنك مصر الفرنسي والمصرية العقارية ومصر للغزل والنسيج ومصايد الأسماك وغزل الحرير والمصنوعات المصرية ومصر للطيران وللسياحة وللجلود والدباغة والمناجم والمحاجر وتكرير البترول والصباغة والمستحضرات الطبية.
مطلوب تحرك عاجل من المسئولين لحماية تاريخنا ورموزنا الوطنية التي استباحها الكثيرون وجهلوا قيمتها وقدرها.


 http://www.ahram.org.eg/NewsQ/211672.aspx
 


http://www.ahram.org.eg/NewsQ/211672.aspx

السبت، ١٨ مايو ٢٠١٣

الكتابة في زمن الخماسين

كتب ـ أسـامة فـرج:

ميادينك يا مصر‏..‏ تحت هذا العنوان صدركتاب للشاعر مجدي بكري‏,‏ و‏(‏الشاعر‏)‏ هو اللقب الذي ينادي به مجدي في الدور الثالث من الأهرام حيث نعمل جميعا ونقيم منذ عرفنا الأهرام والصحافة بحلوها ومرها‏.
الشاعر مجدي بكري
وبكتابه هذا ارتفع رصيده من الكتب إلي ثلاثة كتب بدأها بديوان شعر تحت عنوان( مقاطع من موسيقي الحجارة) ثم بمجموعة قصصية( عروس بلا زفاف) ثم ها هو الثالث( ميادينك يا مصر) ويضم عشرين نصا أدبيا, منها قصص قصيرة ومنها مقالات قصصية وتأملات في واقعنا السياسي والأدبي والفني.. يعني خلطة من الكتابة تتلاءم مع طبيعة مرحلة اللهاث التي نعيشها حيث لا فرصة لالتقاط الأنفاس, ولا يكاد المرء يقف أمام فكرة حتي تهتز بعنف وتتمخض عنها أفكار أخري لا تمت لها بصلة, فتختلط المشاعر والرؤي ولا يدري المرء كيف يمكنه أن يعبر, فترانا نصرخ أحيانا في شبه مقال, أو نبرطم في شبه قصيدة, او شبه قصة, وكثيرا ما نستعذب الهذيان بكلام لا ينتمي لأي صنف من أصناف الكتابة.. فلك العذر يا صديقي بل لك تحية إكبار أن استطعت في هذا المناخ الخماسيني المغبرالعاصف أن تتنفس وأن تكتب.. يا لك من رجل مخلص للكتابة, ويا لك من رجل شجاع قوي القلب والرئتين..

عروس بلا زفاف - مجموعة قصصية للشاعر مجدي بكري

في مناخ مغاير يا مجدي عبر الرائد الكبير توفيق الحكيم عن الموضوع الذي عبرت عنه في مقالك القصصي( ميادينك يا مصر) فكتب رواية( عودة الروح) ويقيني أنه لو كان يكتب في زمانك هذا لجاءت كتابته شبيهة بكتابتك, ولو كان زمانك يا صاحبي مثل زمانه لكتبت مثل كتابته, هو كتب في زمان متضح فعبر عن ثورة1919 من خلال عمل روائي واضح الاركان, فيه شخصيات واضحة,ومواقف واضحة, والهدف معروف وواضح للجميع ومتفق عليه, وما كان باستطاعة كاتبنا الكبير نحت شعار الثورة( الكل في واحد) ما لم يكن يري بوضوح تحقق الشعار علي أرض الواقع.. كان الرجل صادقا فيما كتب, وانت أيضا يا مجدي كنت صادقا وأنت تنحت شعار( بعضي يمزق بعضي) لتعبر به عن أحوالنا بعد ثورة يناير,

ميادينك يا مصر - للشاعر مجدي بكري

وكنت صادقا وانت تعبر عن الواقع الخماسيني الذي نعيش فيه فجاءت كتابتك عنه خماسينية مثله, فلا هي قصة ولا هي مقال, كتابة عاصفة مثل زمانها العاصف غير المستقر, شخصيات مقالك القصصي تشبه زمانها, متعجلة مثله, غير مستقرة مثله, حائرة وفاقدة لليقين والهدف, ومعبرة بالتمام عن زمانها الفاقد لليقين والهدف, هي مثل زمانها مراوغة, محيرة, ومحتارة بين الميادين تصرخ هنا بما تصرخ بنقيضه هناك, تريد أن تقول كل شيء فلا تقول شيئا.. ولك العذر يا صاحبي فقد جازفت بالكتابة عن ثورة يناير وانت وسط العاصفة وأظن أن بعض الصبر علي الفكرة سينتج عنه عمل أدبي جيد, وأظن أن الكتابة الأدبية عن الثورة ــ أي ثورة ــ تحتاج لوقت حتي تهدأ العواصف ويتحقق بعض الصفاء اللازم لأتقان الصنعة, فالفن ــ أي فن ــ هو صنعة, وتوفيق الحكيم نشر( عودة الروح) عام1933 أي بعد ثورة1919 بسنوات كافية لإنضاج الفكرة وصفاء الرؤية, ويقيني يا صاحبي أن ثورة يناير ــ وأي ثورة ــ هي بنت لفكر وثقافة وفنون, كما انها وبالضرورة ستكون أما لفكر وثقافة وفنون, فاصبر يا مجدي علي فكرتك, وسيأتي الوقت الذي تفرح فيه ونفرح معك بالمولود الجميل المكتمل..



مقاطع من موسيقى الحجارة ـ عزف منفرد على المقلاع «وقصائد أخرى»


محمــــد الـــــــدرة

[ديسمبر 2000]

يا محمد.. أنت درة
أنت طوفان ..وثورة..
أنت من كنا نُريد،
كى نفيق..
كى نعيد..
مجدنا الماضى العتيد..
يا محمد.. أنت جمرة،
واشتعال.. فوق تلٍ من جليد
لن يضيع الصوت منا.. فى الهواء
صار رعدا فى المجرة
كيف يغتالون طفلا
يحتمى ظهر أبيه
هل لديهم
من سمات العدل ذرة؟
يا محمد..
أنت فى الخلد شهيد،
غير ثأرك لا نريد
أنت ناقوس جديد
دَق فى الصمت الكئيب
فانتشت فى البحر فوره
أنت كف من حديد
تلطم الوجه القبيح
وتحطم..
أنف صهيون العنيد
فوق صخرة
يا محمد.. لن نمد اليد دوما
بالسنابل
ليس يجدينا التصالح والتسامح
والتواصل..
لن يعيد الحق
غير الدم،
غير أصوات القنابل..
قد تخاذلنا كثيرا، فليمت زمن التخاذل
قد مللنا الصمت
ضاق الصدر من طول التواكل
ها هو الأقصى ينادى
أين أنتم؟
يا حماة الدين هبو وانقذونى
بالمشاعر..
والمشاعل
والأيادى
نظفوا ثوبى المقدس
داسه الوغد المعادى
يقتلون الغد فيكم .. يقتلون
أيم أنتم
أين أنتم
اسمعوا .. يا من أنادى
يا محمد
أنت من سكن الحنايا،
والشغاف..
أنت قد أعلنتها
"أبتاه.. إنى لا أخاف"
.. لا نخاف
رغم الدناسة فى أوطاننا،
تستقر .. وتُستضاف؟!
والموت للأحلاف،
من يتعاونون على النذالة
والعداوة،
واغتصاب الأرض،
دونما إنصاف.
يا محمد
الناس تهتف فى العواصم والمدن
وتجمعوا..
نِعم التجمع فى المحن
القدس .. لا..
القدس لا.. لن تمتهن ..
إنا نبادر بالشهادة
من أجل أن يحيا الوطن
من أجل أن يحيا الوطن

عزف منفرد على آلة المقلاع

[ 5 يناير 2005]          

زيدينا طربا.. زيدينا
زيدينا طربا يا أحجار الأرض المحتلة
يا أجمل قطعة موسيقى
نترقبها منذ سنين
تمضى الأيام
وما زلنا نطرب
ما زالت فرقة أطفالك تعزف..
تحتضن الآلات الحجرية
تُصدر أنغاما غجرية
تقذف حمما نارية
لم يتعب هذا الكوال
ولن يتعب..
لم نسمع باقى الأغنية!
لاتوجد فوق المسرح
آلات أخرى
غير "المقلاع"
عبر وكالات الأنباء
وشاشات التلفاز
وموجات المذياع
تمتع كل الأسماع
الحجر يغنى ويغنى
والسطوة تنهار وترتاع
اللحن يثور
والثور يخور
والخوف يفر
ويهرب من قلب الصبية
ليسكن فى أفئدة الأعداء
يرتفع اللحن ويتتابع
تعلو أصوات قنابلهم
الحارقة.. النابلم.. العنقودية
كل الأسلحة النارية
لاتقطع عزف الملحمة الحجرية
لا تصبح إلا موسيقى تصويرية.. للخلفية.
فى أمسية
كان مهند يعزف،
لحنا حجريا منفردا..
كان "مهند" يعزف،
كان مهند يقذف
أحجارا بركانية
ومهند هذا
ـ لم يتعد الإثنى عشر ـ
هجم النازيون عليه
لطموا وجهه..
كسروا كفيه..
قالوا: يا أنت..
من علمك العزف على الأحجار؟
قال: محمد
قالوا: أين محمد هذا؟
قال: بداخل هذى الدار
كسروا باب الدار ودخلوا
نبشوا فى كل الحجرات
وأخيرا.. وجدوه
طفلا عمره تسع سنين
الطفل محمد..
كان هو الأستاذ!
الله أكبر لم تكن إلا بداية
بعدها كان العمل
كان الحجر
يا شعبنا لن تنكسر
لن تنصهر
من يمنع الأعاصير من عصفها؟
من يوقف الأبابيل عن قصفها؟
من يخمد البراكين
إن تنفجر...؟
تلك أنغام الحياة..
سنبنى الحياة
بهذا الحجر!

سامحينا

[يونيو 1986]


سناء
فى إحدى قرى الجنوب اللبنانى، قرب مقر القيادة الأمريكية ببيروت، كانت سيناء محيدلى الصبية الصغيرة قد قررت الاستشهاد فى سبيل قضية شعبها الفلسطينى ولتسهم بجسارة فى بث الرعب فى قلب العدو الإسرائيلى، واستقلت سناء سيارتها المحملة بالمتفجرات واندفعت وسط قافلة للعدو لتفجر نفسها بينهم وتقتل وتصيب حوالى مائتين منهم.. وتركت لنا شريطا بصوتها تروى فيه بكلمات معبرة ومختصرة ما ستفعله .. ولماذا؟

أواه يا ابنة الجنوب
لاندرى ماذا نقول
من بعد قولتك؟
تبعثرت كلماتنا.. تكسرت مآقينا
آهِ
فلنتوار خجلا
فلنهرب خزيا
فلندفن ذاك الرأس الأحمق
تحت الرمل.. فلنصمت..
فلنغلق أعيننا..
لا تعليق
فكلامك لا يحتاج إلى تعليق
لم تحتاجى تمهيد
أو شرح أو تشويق
كلماتك لم ينقصها وزن
أو تنسيق
فلنقتل آلاف الكلمات الشوهاء
فلنلعن تلك الخطب الجوفاء
فلنحرق كل قصائدنا
فلنسكت كل أغانينا،
فلنقذف كل خزائننا..
فى جوف البحر،
فلنهرب من كل العالم
فلنهرب..
من هذا الضعف العالق فينا
آهِ.. كلماتك تكوينا
تحرقنا،
تقتلنا.. تُفنينا..
سامحينا..
نقولها من بعدما احترقت..
بعدما أردتٍ.. أن توقظينا
أن تشعلى النخوة فينا
تحركينا
ماذا فعلنا.. وماذا سنفعل؟!
ذرفنا فوق أشلائك الدموع
نعم..
قد بكينا.. وطال البكاء
وقناء سناء..
سناءٌ.. سناءْ
.. وماذا بعد؟!
سننفش اسمك فى سجلاتنا
نضمها إلى عدم أسماء
إلى عدة شهداء
سنطلق إسمك على بعض شوارعنا
وننثر فوق ثراكٍ مئات الورود
ونقسمُ أنا يوماً ما..
سوف نعود
سنسرف فى الأمنيات
سنأخذ على أنفسنا مئات العهود.. مئات الوعود
وسوف ترينا
ـ كما تعودت دوما دوما أن تجدينا ـ
نتثاءب باسترخاء ..
ونرجع إلى خمولنا لمعهود
رجاء،
أن تسامحينا
سامحينا..!


وقالوا إننى مجنون!

[1985]



سليمان خاطر.. جندى مصرى كان يؤدى خدمته فى سيناء الحبيبة ..واستفزه بعض الإسرائيليين وبصقوا على العلم المصرى وأهانوه .. فأطلق عليهم نيران بندقيته..واعتقلته السلطات .. وقيل ـ وقتها ـ إنه مجنون!!

[1]
قولوا لكل الناس..
إنى لم أجن.
هذا لأنى قد سمعتُ
رمال سيناء تئن
إنى أبيت العيش
فى وطن يهان
إنى رأيت جذوع النخل تمقتنى،
وتصرخ فى عيونى:
يا جبان!
إنى شعرتُ بأن صخور التل
تذبحنى..
والماء يغرقنى
ويمحونى الزمان..
ولربما..
ـ حين انطلقت رصاصاتى ـ
كان عقلى بَينَ بينْ
لكن أنا..
أنا صدقونى..
لم أجن.

[2]
إنى أردت الطير
لم أستطع كبح الجماح..
نعم..
أردت الطير فى بلدٍ
يراد له..
أن يكون بلا جناح..
أرادوا
أن يظل الليل يخنقنا
ولا يأتى صباح
أرادوا أن نصافحهم
ولهم فينا جراحٌ.. وجراح
.. يا قوم:
إن عدونا لا يؤتمن..
أنا لم أُجن
أنا لم أُجن

[3]
وأنا صغير
ـ هناك فى بحر البقر ـ
رأيت رؤوس أصحابى تطير
والفصل يسقط
والمقاعد،
والصور
واللهو يقطعه أزيز الطائرات
والدم ينزف من قلوب طاهرات
إنى سمعت الموت ينطق
والسكات..
ورأيت وجه أعدائى القبيح
لكل شئ يستبيح
أحسست
إنى قطرة من دمّ
فى وطن ذبيح
..وبدأت أكرههم وأكره وجههم
واليوم..
اليوم قلبى يستريح
ويطمئن
لكن أنا..
أنا.. صدقونى ..
لم أجن.. لم أجن.

[معلق أنا فى مشانق الصباح/ وجبهتى بالموت محنية/ لأننى لم أحنها حية ] «أمل دنقل»
قتلناك!!
1 فبراير 1986
فجأة .. قيل أن سليمان خاطر قد انتحر فى سجنه!! وذلك بأن ربط رقبته بحبل فى شباك غرفة السجن.

سليمان .. سليمان.. سليمان
قتلناكَ
يا آخر عقلاء هذا الزمان
ذبحناك
على حائط المبكى
قدمنا رأسك قربان
وهدمنا المعبدَ فوقك
فوقك وحدكْ
ورمينا خاتمك السحرى
فى جوف البحر
وخرج إلينا ملوك الجان
فى زى الرهبان
سليمان
سيشهد علينا الزمان
بأنا جَبٌنَا
وأنك ما كنت يوما جبان
سيشهد..
سيشهد بأنا سنندم يوما
ولكن،
بعد فوات الأوان
سنندم..
ونعلم
من منا كان المجنون؟
مَن مِنا كان يخون؟
سنعلم معنى
"من عاش لنفسه..
ما استحق أن يكون"
سنعرف
بعد أن نرى بيننا
من لبنان عشرين
سنندم
بعدما.. لن نكون
سليمان
اسمك فى كل فم
جرح ودم،،
يصرخ فى وجه كل البشر:
سليمان لم ينتحر..
لم ينتحــر!!

قالت مونيكا

[24 سبتمبر 1998]


مونيكا
فى الوقت الذى تفجرت فيه فضيحة مونيكا تم ضرب كلينتون السودان بالطائرات واستهدف أحد المواقع مدعيا إنها مصنع أسلحة وثبت بعد ذلك أنها مصنع الشفاء للأدوية!!
مونيكا قالت:
إن "كلينتون" غرر بِى
وتطاول فى تقبيلى
وتحرش بى
ولما أنكر صاحبنا ما قالت
ظهر "الفستان الأزرق"
ليحيل نهار كلينتون
لظلام أبدى
فُضحَ كلينتون
وتهاوت صورته فى الإعلام الغربى
لم يُبقِ كلينتون شيئا
يستر عورته
لم يجد كلينتون ثوباً
يخفى سوءتهُ
سوى الدم العربى
مونيكا
وإن كانت شريكتهُ
فى مباذِله
وفى مكتبه "أحيانا"
لكنها شبيهتنا
فى مصيبتنا.. وبلوانا
مونيكا مثيلتنا
فى تَمزقنا.. تشتتنا
وعرضنا المهتوك.. أحيانا
رغم ما فيك.. يا مونيكا
فإنك أجرأ مِنا
ـ هذا رأيى ـ
فقد قلتِ.. ونحن،.. جبنـــــا..
"أمريكا بلد الحرية"
مائتا علامة استفهام
وتعجب!!
يتمزق قلبى غيظا
وتموت الدمعة فى عينَيّ
فليوأد أطفالك يا بغداد
فليتقل عمال السودان
فليختنق الشعب الليبى...
فلتنسف مدنٌ أفغانية
فلتدفن أحياء بوسنية
وليحيى الذئب الصربى
«البيت الأبيضُ»..
ما عاد كذلك!
أصبح أسود
مثل الليل الحالك فى بغداد
أصبح أحمــر
كالدم النازف فى الخرطوم
أصبح أصفر
كالرمل القاحل فى طبرق..
البيت سيتهاوى حتماً
من أنات الموجوعين
من صرخات المطعونين..
من دمعة طفل فقد أباه بغزة..
من ألم الطفلة تتلوى فى كوسوفا.
البيت سيتهاوى حتماً
لن تبقى أمريكا أبداً
جاثمة فوق صدور الضعفاء.
يا هذا العالم..
يا كل محاكم هذا العالم
يا كل قضاه الكون
شرقى أو غربى
أين العدل؟
من يصفع وجهك يا عربى
فلتفتح صدرك له
كى تتلقى طعناته
حتى لا تصبح "إرهابىْ"!!
أمريكا.. ما عادت "رعاية سلام"
أمريكا .. صارت راعية
للذئب الصهيونى!!

مبروك ياشباب التحرير

[11 فبراير 2011]


فى يناير
يوم خمسة وعشرين
كانوا الولاد مستنيين
متحفزين. متأهبين ومصممين
عاوزينها ترجع مصر لينا
عاوزين عيون الدنيا
تتفرج علينا
عاوزين يقولوا مصر ما نمتيشي
مصر ممتيتشي
ويقولوا يا زمن السكوت
روح من وشنا.. إمشي
انا شوفتهم ماشيين
ميات ورا ميات
قبلتهم التحرير
بيطالبوا بالتغيير
"سلمية، سلمية"
سلمية هَبتنا
سلمية ثورتنا
إحنا هنا واقفين
قاعدين ومش ماشيين
لحد ما ييجى النهار
واقفين
ومش خايفين
من غاز ولا من نار
ولا من "خيول" التتار
لازم نرد الاعتبار
لازم نجيب الانتصار
على الفساد والانكسار
احنا يا ناس الشباب
لا جماعة ولا أحزاب
ولا عيلة ولا أصحاب
مش منتمين لأى حزب
ولا زى ما قالوا علينا
متدربين. متأمركين
لكننا عاوزين
ما نعيشِ كالأغراب
سارقينها منا وحوش
بشغل حلق حوش
احنا هنا وقفنا
ف ساحة التحرير
ملايين ورا ملايين
لازم يكون تغيير
لازم يكون تحرير
دمنا الطاهر
اللى سال على الأرض
راح يطرح جناين نور
الدم. مش هيروح هدر
أهى دارت الدايرة
ولكل ظالم دور
مبروك يا شباب التحرير
الثورة أهه نجحت
وشمسنا هلت
يالا بنا نبنى البيت
ونلم شمل الناس
الفرحة تجمعنا
والحب والإخلاص

في 24 أغسطس، 2011، الساعة 06:46 مساءً


مفاطع من موسبفى الحجارة











الثلاثاء، ١٤ مايو ٢٠١٣

عروس‏ ‏بلا‏ ‏زفاف


كــانت‏ ‏البداية‏ ‏علي‏ ‏ورقة‏ ‏بيضاء‏ ‏مقواه‏ ‏كبيرة‏ .. ‏علي‏ ‏مكتب‏ ‏زجاجي‏ ‏فخم‏ ‏كانت‏ ‏تفاصيلي‏ ‏الدقيقة‏ ‏تتسرب‏ ‏من‏ ‏سن‏ ‏قلم‏ ‏في‏ ‏يد‏ ‏المهندس‏ ‏الإنشائي‏ ‏الكبير‏.. ‏وكانت‏ ‏قبل‏ ‏ذلك‏ ‏بفترة‏ ‏وجيزة‏ ‏أوراق‏ ‏مالية‏ ‏كثيرة‏ ‏تتنقل‏ ‏من‏ ‏يد‏ ‏إلي‏ ‏يد‏ ‏من‏ ‏أجلي‏.. ‏نقود‏ ‏في‏ ‏السر‏.. ‏وأخري‏ ‏في‏ ‏العلانية‏.. ‏وعلي‏ ‏مساحة‏ ‏كبيرة‏ ‏من‏ ‏الأرض‏ ‏بأحد‏ ‏الأحياء‏ ‏الراقية‏ ‏كان‏ ‏العمل‏ ‏يتم‏ ‏علي‏ ‏قدم‏ ‏وساق‏ ‏في‏ ‏الحفر‏ .. ‏وعلي‏ ‏جانبي‏ ‏الشارع‏ ‏تكومت‏ ‏شكائر‏ ‏الأسمنت‏ ‏وأسياخ‏ ‏الحديد‏ ‏وأكوام‏ ‏من‏ ‏الرمال‏ ‏والزلط‏..‏
كنت‏ ‏منذ‏ ‏هذه‏ ‏اللحظة‏ ‏قد‏ ‏بدأت‏ ‏في‏ ‏تخيل‏ ‏الشكل‏ ‏العام‏ ‏لي‏.. ‏حقا‏ ‏سأكون‏ ‏أجمل‏ ‏عمارة‏ ‏في‏ ‏هذا‏ ‏الحي‏ ‏الراقي‏ ‏كله‏.. ‏أطول‏ ‏عمارة‏ .. ‏يسكنني‏ ‏أغني‏ ‏الناس‏.. ‏أحسست‏ ‏بالتيه‏ ‏والخيلاء‏ , ‏ولا‏ ‏أخفي‏ ‏عليكم‏ ‏والغرور‏ ‏أيضا‏..  ‏ولكني‏ ‏كتمت‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏المشاعر‏ ‏في‏ ‏نفسي‏.. ‏لم‏ ‏يأن‏ ‏أوانها‏ ‏بعد‏.. ‏مان‏ ‏الحفر‏ ‏كل‏ ‏يوم‏ ‏يزداد‏ ‏عمقا‏ ‏حتي‏ ‏أشار‏ ‏المهندس‏ ‏المسئول‏ ‏بالكف‏ ‏عن‏ ‏الحفر‏ ‏وبدأ‏ ‏العمال‏ ‏والماكينات‏  ‏في‏ ‏صب‏ ‏الأساس‏.. ‏أسمنت‏ ‏جيد‏ .. ‏مسلح‏ ‏قوي‏ ‏متماسك‏.. ‏العمل‏ ‏يسير‏ ‏بعزم‏ ‏ونشاط‏.. ‏اكتمل‏ ‏الأساس‏.. ‏وبدأ‏ ‏بناء‏ ‏الدور‏ ‏الأول‏.. ‏وانهالت‏ ‏عروض‏ ‏وطلبات‏ ‏التملك‏ ‏والإيجار‏ ‏علي‏ ‏أصحابي‏.. ‏لكنهم‏ ‏في‏ ‏البداية‏ ‏اجتمعوا‏ ‏ليحددو‏ ‏أسعار‏ ‏السكن‏ ‏بي‏.. ‏إعلان‏ ‏صغير‏ ‏عني‏ ‏وعن‏ ‏ثماني‏ ‏عمارات‏ ‏أخريات‏ ‏يمتلكهن‏ ‏نفس‏ ‏الأشخاص‏, ‏ولكنني‏ ‏سأكون‏ ‏بكل‏ ‏تأكيد‏ ‏أجملهن‏.. ‏هكذا‏ ‏سمعت‏ ‏أحد‏ ‏المهندسين‏ ‏المشتركين‏ ‏في‏ ‏التنفيذ‏ ‏يقول‏ ‏لزميله‏.. ‏كان‏ ‏هذا‏ ‏الإعلان‏ ‏الصغير‏ ‏كافيا‏ ‏لأن‏ ‏تحجز‏ ‏كل‏ ‏شققي‏..‏بل‏ ‏والعمارات‏ ‏الثماني‏ ‏الأخريات‏.. ‏أزمة‏ ‏الإسكان‏ ‏محتدة‏.. ‏الكل‏ ‏يبحث‏ ‏عن‏ ‏سعادته‏ ‏وسعادة‏ ‏أسرته‏ .. ‏والأغنياء‏ ‏زادوا‏ ‏في‏ ‏البلد‏.. ‏والباحثون‏ ‏عن‏ ‏الراحة‏ ‏والرفاهية‏ ‏لا‏ ‏يبخلون‏ ‏بمال‏ ‏علي‏ ‏سعادتهم‏ ‏أيا‏ ‏كان‏ ‏هذا‏ ‏المال‏.. ‏والسكن‏ ‏في‏ ‏قلب‏ ‏القاهرة‏ ‏في‏ ‏شقة‏ ‏واسعة‏ ‏أمنية‏ ‏يتمناها‏ ‏الكثيرون‏.. ‏كانت‏ ‏آلاف‏ ‏الجنيهات‏ ‏تنساب‏ ‏من‏ ‏الأيدي‏ ‏المتعطشة‏ ‏للسكن‏ ‏إلي‏ ‏أيدي‏ ‏الملاك‏ ‏وكأنها‏ ‏قروش‏ ‏قليلة‏.. ‏ولم‏ ‏لا‏.. ‏فالأرض‏ ‏التي‏ ‏أقمت‏ ‏عليها‏ ‏وصل‏ ‏سعر‏ ‏المتر‏ ‏فيها‏ ‏إلي‏ ‏رقم‏ ‏قياسي‏.. ‏كنت‏ ‏أنا‏ ‏سعيدة‏ ‏بكل‏ ‏ذلك‏.. ‏وكلما‏ ‏ارتفع‏ ‏ثمن‏ ‏شققي‏ ‏كلما‏ ‏ازددت‏ ‏زهوا‏.. ‏وكلما‏ ‏ارتفع‏ ‏طابق‏ ‏مني‏ ‏ازددت‏ ‏غرورا‏.. ‏نعم‏ .. ‏فقد‏ ‏ارتفعت‏ ‏قامتي‏ .. ‏كنت‏ ‏أنظر‏ ‏الي‏ ‏العمارات‏ ‏المحيطة‏ ‏بي‏ ‏من‏ ‏أسفل‏ ‏في‏ ‏حقد‏ ‏شديد‏ .. ‏نظرات‏ ‏ملتهبة‏ ‏بالكراهية‏ .. ‏متي‏ ‏يأتي‏ ‏اليوم‏ ‏الذي‏ ‏تتساوي‏ ‏فيه‏ ‏قامتي‏ ‏معهم‏.. ‏بل‏ ‏أعلو‏ ‏عنهم‏ ‏وأفوقهم‏.. ‏يا‏ ‏لها‏ ‏من‏ ‏فرحة‏.. ‏يا‏ ‏له‏ ‏من‏ ‏شعور‏ ‏بالإنتشاء‏ ‏ذلك‏ ‏الذي‏ ‏سيخالجني‏ ‏في‏ ‏ذلك‏ ‏اليوم‏.. ‏احساس‏ ‏رائع‏ ‏أشعر‏ ‏به‏ ‏الآن‏ ‏ويشعر‏ ‏به‏ ‏ملاكي‏ ‏أيضا‏.. ‏ها‏ ‏هي‏ ‏أحلامي‏ ‏قد‏ ‏تحقق‏ ‏معظمها‏ .. ‏نظرات‏ ‏الإعجاب‏ ‏تحيطني‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏جانب‏ .. ‏الأمنيات‏ ‏تراود‏ ‏القلوب‏ ‏كلما‏ ‏مر‏ ‏جماعة‏ ‏من‏ ‏الناس‏ ‏في‏ ‏الشارع‏ ‏أمامي‏.. ‏الكل‏ ‏يتمني‏..‏ولكن‏ ‏سعداء‏ ‏الحظ‏ ‏فقط‏ ‏هم‏ ‏الذين‏ ‏سيأتي‏ ‏بهم‏ ‏قدرهم‏ ‏إلي‏..‏وستمكنهم‏ ‏قدرتهم‏ ‏المالية‏ ‏علي‏ ‏امتلاك‏ ‏شقة‏ ‏بي‏.. ‏مغرورة‏ ‏أنا‏.. ‏ألا‏ ‏تلاحظون‏ ‏ذلك؟‏.. ‏وكذلك‏ ‏أصحابي‏ ‏يتمتعون‏ ‏بنفس‏ ‏الصفة‏..‏
ارتفعت‏ ‏وعلوت‏.. ‏حتي‏ ‏أصبحت‏ ‏واحدة‏ ‏من‏ ‏أعلي‏ ‏عمارات‏ ‏الحي‏ ‏كله‏.. ‏وغلا‏ ‏ثمن‏ ‏شققي‏ ‏الباقية‏ ‏التي‏ ‏لم‏ ‏تبع‏ ‏حتي‏ ‏الآن‏.. ‏تحقق‏ ‏حلمي‏ ‏أو‏ ‏اقترب‏ ‏من‏ ‏التحقق‏.‏
وهل‏ ‏هو‏ ‏البناء‏ ‏قد‏ ‏انتهي‏.. ‏بدأت‏ ‏التشطيبات‏ ‏النهائية‏.. ‏لكنني‏ ‏الآن‏ ‏أود‏ ‏الاعتراف‏ ‏لكم‏ ‏بشئ‏ ‏بيني‏ ‏وبينكم‏.. ‏تأكدوا‏ ‏انني‏ ‏صادقة‏ ‏تماما‏ ‏في‏ ‏هذا‏.. ‏ومضطرة‏ ‏إلي‏ ‏قوله‏ ‏بعدما‏ ‏شعرت‏ ‏به‏.. ‏إنني‏ ‏أشعر‏ ‏ان‏ ‏الحديد‏ ‏المسلح‏ ‏الذي‏ ‏بنيت‏ ‏به‏ ‏الطوابق‏ ‏العليا‏ ‏مني‏ ‏ليس‏ ‏هو‏ ‏الحديد‏ ‏الذي‏ ‏تم‏ ‏استخدامه‏ ‏في‏ ‏الأساس‏.. ‏ليس‏ ‏بنفس‏ ‏القوة‏ ‏والصلابة‏ .. ‏كذلك‏ ‏الأسمنت‏ .. ‏مذاقه‏ ‏غريب‏ ‏أيضا‏ .. ‏التماسك‏ ‏ضعيف‏ .. ‏لذلك‏ ‏فقد‏ ‏شعرت‏ ‏ببعض‏ ‏التنميل‏ ‏في‏ ‏الأجزاء‏ ‏السفلية‏ ‏مني‏.. ‏أشعر‏ ‏بوخزات‏ ‏ألم‏.. ‏أحاول‏ ‏التهرب‏ ‏من‏ ‏التفكير‏ ‏في‏ ‏هذا‏ ‏الموضوع‏.. ‏أحاول‏ ‏أن‏ ‏أبرر‏ ‏هذا‏ ‏الموقف‏ ‏بنفس‏ ‏طريقة‏ ‏أصحابي‏.. ‏كل‏ ‏عمارات‏ ‏البلد‏ ‏تبني‏ ‏هكذا‏.. ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏الموجود‏ ‏في‏ ‏السوق‏.. ‏ربما‏ ‏يكون‏ ‏تحديث‏ ‏في‏ ‏فن‏ ‏البناء‏.. ‏يجوز‏ ‏تطوير‏.. ‏خامات‏ ‏جديدة‏ ‏مستوردة‏ .. ‏انني‏ ‏ما‏ ‏زلت‏ ‏واقفة‏.. ‏بخير‏.. ‏لا‏ ‏شئ‏ ‏بي‏ ‏علي‏ ‏الإطلاق‏.. ‏عروس‏ ‏الحي‏ ‏أنا‏.. ‏هكذا‏ ‏يقول‏ ‏الناس‏ ‏عني‏.. ‏وها‏ ‏هم‏ ‏يضعون‏ ‏اللمسات‏ ‏الأخيرة‏ ‏علي‏ ‏واجهتي‏.. ‏ويزينون‏ ‏الشرفات‏ ‏بالزرع‏ ‏الأخضر‏ ‏الجميل‏.. ‏
آآآآه‏ .. ‏لا‏ ‏أقوي‏ ‏علي‏ ‏الاحتمال‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏ذلك‏.. ‏لقد‏ ‏ازداد‏ ‏الألم‏ ‏بي‏.. ‏أشعر‏ ‏ببعض‏ ‏أعمدتي‏ ‏تئن‏ ‏بشدة‏.. ‏تكاد‏ ‏تنفجر‏ ‏من‏ ‏شدة‏ ‏الثقل‏ ‏المحمل‏ ‏عليها‏.. ‏وفجأة‏ ‏فضحني‏ ‏الغلاف‏ ‏الرقيق‏ ‏الذي‏ ‏يطلي‏ ‏أعمدتي‏ .. ‏لقد‏ ‏تشققت‏ ‏وتقشرت‏ ‏وظهرت‏ ‏خطوط‏ ‏مائلة‏ ‏في‏ ‏الحوائط‏ ‏تنبئ‏ ‏عما‏ ‏تحتها‏.. ‏للأمانة‏ ‏هذا‏ ‏حدث‏ ‏في‏ ‏بعض‏ ‏الأعمدة‏ ‏والحوائط‏ ‏وليس‏ ‏كلها‏.. ‏بعض‏ ‏العمال‏ ‏اكتشفوا‏ ‏ما‏ ‏حدث‏.. ‏سارعوا‏ ‏بإبلاغ‏ ‏باقي‏ ‏زملائهم‏.. ‏نزل‏ ‏العمال‏ ‏مني‏ ‏ووقفوا‏ ‏بعيدا‏ ‏ينظرون‏ ‏إلي‏ ‏بخوف‏.. ‏اتصلوا‏ ‏بأصحابي‏ ‏الذين‏ ‏جاءوا‏ ‏مسرعين‏ ‏بسياراتهم‏ ‏الفارهة‏ ‏ووقفوا‏ ‏بعيدا‏ ‏عني‏ ‏بملابسهم‏ ‏الكاملة‏ ‏وعطرهم‏ ‏الفواح‏ ‏يتشاورون‏ ‏ويتهامسون‏ ‏وهم‏ ‏يشيرون‏ ‏إلي‏ ‏ويقتربون‏ ‏مني‏ ‏بحذر‏.. ‏
عرف‏ ‏السكان‏ ‏المحيطون‏ ‏بي‏ ‏القصة‏.. ‏يا‏ ‏لعاري‏.. ‏سري‏ ‏الخبر‏ ‏مسري‏ ‏النار‏ ‏في‏ ‏الهشيم‏.. ‏الذين‏ ‏دفعوا‏ ‏مقدم‏ ‏التمليك‏ ‏جاءوا‏ ‏مسرعين‏ ‏يطالبون‏ ‏باسترداد‏ ‏نقودهم‏.. ‏ارحموني‏ ‏يا‏ ‏قوم‏..‏
لسوء‏ ‏حظي‏ ‏أن‏ ‏صحفيا‏ ‏مغرضا‏ ‏يهوي‏ ‏البحث‏ ‏عن‏ ‏الفضائح‏ ‏كان‏ ‏قريبا‏ ‏مني‏ ‏لحظة‏ ‏معرفة‏ ‏الخبر‏ ‏فأتي‏ ‏مسرعا‏ ‏بقلمه‏ ‏وأوراقه‏ ‏وجاء‏ ‏معه‏ ‏بمصور‏ ‏صوب‏ ‏كاميرته‏ ‏نحوي‏ ‏مركزا‏ ‏علي‏ ‏الشقوق‏ ‏والقشور‏..‏وفي‏ ‏صباح‏ ‏اليوم‏ ‏التالي‏ ‏عرفت‏ ‏انه‏ ‏نشر‏ ‏صفحة‏ ‏كاملة‏ ‏عني‏ ‏في‏ ‏أكبر‏ ‏الصحف‏ ‏وأوسعها‏ ‏انتشارا‏.. ‏فضيحة‏ ‏عروس‏ ‏الحي‏ ‏الراقي‏ .. ‏مانشيت‏ ‏كبير‏ ‏بطول‏ ‏الصفحة‏.. ‏فعلا‏ .. ‏يا‏ ‏للفضيحة‏ .. ‏يا‏ ‏للهول‏ ‏كما‏ ‏قالها‏ ‏يوسف‏ ‏وهبي‏.. ‏كل‏ ‏البلد‏ ‏والبلاد‏ ‏المجاورة‏ ‏عرفوا‏ ‏قصتي‏..‏أخذت‏ ‏الجرائد‏ ‏تتسابق‏ ‏لمعرفة‏ ‏المزيد‏ ‏من‏ ‏أخباري‏ ‏وأسراري‏.. ‏المجالس‏ ‏المحلية‏.. ‏المحافظة‏.. ‏العضو‏ ‏الشرس‏ ‏في‏ ‏مجلس‏ ‏الشعب‏ ‏فتح‏ ‏نيرانه‏ ‏علي‏ ‏الحكومة‏ ‏مهاجما‏ ‏الفساد‏.. ‏الجميع‏ ‏يناقشون‏ ‏مشكلتي‏.‏
التف‏ ‏الناس‏ ‏حولي‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏جانب‏ ‏طوال‏ ‏ساعات‏ ‏النهار‏.. ‏احاطتني‏ ‏النظرات‏ .. ‏هذه‏ ‏المرة‏ ‏ليست‏ ‏نظرات‏ ‏اعجاب‏.. ‏هذه‏ ‏المرة‏ ‏لا‏ ‏توجد‏ ‏أماني‏ ‏في‏ ‏النفوس‏ ‏وانما‏ ‏رعب‏ ‏وفزع‏ ‏في‏ ‏العيون‏ .. ‏هل‏ ‏هي‏ ‏شفقة‏ ‏أم‏ ‏شماتة؟‏.. ‏لا‏ ‏أدري‏.. ‏أصبحت‏ ‏لا‏ ‏أستطيع‏ ‏تحمل‏ ‏نظراتهم‏ ‏هذه‏ .. ‏تزعجني‏ .. ‏اسمع‏ ‏كلماتهم‏ ‏تؤلمني‏ ‏أكثر‏.. ‏كأنها‏ ‏معاول‏ ‏تهدم‏ ‏في‏ ‏صرحي‏ ‏الشامخ‏..‏
كل‏ ‏المسئولين‏ ‏أتوا‏ ‏لتفقدي‏.. ‏يعاينونني‏.. ‏يفحصونني‏.. ‏ابتداء‏ ‏من‏ ‏المحافظ‏ ‏وحتي‏ ‏أصغر‏ ‏مسئول‏.. ‏الكل‏ ‏يريد‏ ‏معرفة‏ ‏قصتي‏.. ‏كنت‏ ‏أري‏ ‏السيارات‏ ‏تهدئ‏ ‏من‏ ‏سرعتها‏ ‏عندما‏ ‏تمر‏ ‏من‏ ‏أمامي‏ ‏وتطل‏ ‏الرؤوس‏ ‏من‏ ‏النوافذ‏ ‏لتلقي‏ ‏نظرة‏ ‏علي‏.. ‏يتبادل‏ ‏أصحابها‏ ‏معلوماتهم‏ ‏عني‏.‏
‏ ‏مش‏ ‏هيه‏ ‏دي‏ ‏العمارة‏ ‏اللي‏ ‏حتقع‏ .. ‏تلك‏ ‏هي‏ ‏بداية‏ ‏أي‏ ‏حديث‏ ‏يدور‏ ‏أمامي‏ .. ‏يقول‏ ‏أحدهم‏ : ‏لقد‏ ‏تكلفت‏ ‏عدة‏ ‏ملايين‏.. ‏وآخر‏ ‏يقول‏ ‏يا‏ ‏عم‏ ‏دا‏ ‏مال‏ ‏حرام‏.. ‏وثالث‏ ‏يقول‏: ‏من‏ ‏قلة‏ ‏ذمة‏ ‏المقاولين‏.. ‏وآخر‏ ‏لا‏ ‏ياحاج‏.. ‏دا‏ ‏بيقولوا‏ ‏ان‏ ‏المهندس‏ ‏هو‏ ‏المسئول‏.. ‏وآخر‏ : ‏الحديد‏ ‏المستورد‏ ‏أكيد‏ ‏هوا‏ ‏السبب‏.. ‏وسيدة‏ ‏تقول‏: ‏خسارة‏ ‏حقيقي‏.. ‏ثروة‏ ‏ضايعة‏.. ‏دا‏ ‏غضب‏ ‏من‏ ‏ربنا‏.. ‏وآخر‏ ‏يقول‏:  ‏أهو‏ ‏أنا‏ ‏كنت‏ ‏ها‏ ‏احجز‏ ‏شقة‏ ‏فيها‏.. ‏لكن‏ ‏الحمد‏ ‏لله‏ ‏علي‏ ‏آخر‏ ‏لحظة‏ ‏ربنا‏ ‏أنقذني‏.. ‏يا‏ ‏راجل‏ ‏دول‏ ‏تمن‏ ‏عمدان‏ ‏فرقعوا‏ ‏فيها‏.. ‏وآخر‏ ‏يقول‏: ‏دا‏ ‏افترا‏ ‏شوف‏ ‏سعر‏ ‏المتر‏ ‏في‏ ‏الشقق‏ ‏فيها‏ ‏وصل‏ ‏لكام‏.. ‏دا‏ ‏فيها‏ ‏حمام‏ ‏سباحة‏ ‏علي‏ ‏السطوح‏ ‏متكلف‏ ‏الشئ‏ ‏الفلاني‏ .. ‏و‏ .. ‏و‏ ‏أقوال‏ ‏كثيرة‏.. ‏عبارات‏ ‏وعبارات‏ ‏تمزقني‏ ‏مثل‏ ‏السكاكين‏ .. ‏يا‏ ‏لقسوتكم‏.. ‏يا‏ ‏لتحجر‏ ‏قلوبكم‏!!‏
ولكن‏ ‏برغم‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏سببه‏ ‏ما‏ ‏حدث‏ ‏لي‏ ‏من‏ ‏آلام‏ ‏نفسية‏ .. ‏ورغم‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏العذاب‏.. ‏لا‏ ‏أخفيكم‏ ‏سرا‏ ‏إنه‏ ‏حمل‏ ‏لي‏ ‏في‏ ‏طياته‏ ‏بعض‏ ‏السعادة‏ ‏لي‏.. ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏الشهرة‏.. ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏المجد‏ ‏يمثل‏ ‏قمة‏ ‏امنياتي‏, ‏ولكن‏ ‏آه‏ ‏لو‏ ‏كانت‏ ‏هذه‏ ‏الشهرة‏ ‏وهذا‏ ‏المجد‏ ‏بغير‏ ‏ذلك‏ ‏الألم‏.. ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏شهرة‏ ‏لسبب‏ ‏آخر‏ ‏غير‏ ‏هذه‏ ‏العيوب‏ ‏الخطيرة‏ ‏في‏.. ‏لقد‏ ‏هرب‏ ‏مني‏ ‏كل‏ ‏الذين‏ ‏كانوا‏ ‏يريدون‏ ‏سكناي‏.. ‏حتي‏ ‏الجيران‏ .. ‏لقد‏ ‏صدر‏ ‏أمر‏ ‏بإخلاء‏ ‏عدة‏ ‏عمارات‏ ‏مجاورة‏ ‏لي‏.. ‏وتم‏ ‏إجبار‏ ‏ملاكي‏ ‏علي‏ ‏تسكين‏ ‏كل‏ ‏هؤلاء‏ ‏الجيران‏ ‏بالفنادق‏ ‏علي‏ ‏نفقتهم‏ ‏الخاصة‏ ‏لحين‏ ‏حل‏ ‏مشكلتي‏.. ‏أبعدوهم‏ ‏عني‏.. ‏من‏ ‏يصدق‏ ‏هذا‏ .. ‏أصبحت‏ ‏كمريضة‏ ‏الجرب‏ ‏أو‏ ‏الإيدز‏ ‏الجميع‏ ‏يهرب‏ ‏مني‏ ‏ويبتعد‏ ‏عني‏.. ‏من‏ ‏يصدق‏ ‏هذا؟‏!.. ‏أشعر‏ ‏بالوحدة‏.. ‏بأنني‏ ‏منبوذة‏ ‏من‏ ‏الجميع‏ .. ‏تعالت‏ ‏الأصوات‏ ‏مدوية‏ ‏تطالب‏ ‏بهدمي‏ ‏فورا‏ ‏من‏ ‏أجل‏ ‏الحفاظ‏ ‏علي‏ ‏أرواح‏ ‏الجيران‏ ‏والسكان‏.. ‏وروحي‏ ‏أنا‏ ‏ألا‏ ‏تهم‏ ‏أحدا؟‏! ‏كلا‏ ‏انني‏ ‏أرفض‏ ‏هذا‏ ‏الاقتراح‏ ‏رفضا‏ ‏باتا‏.. ‏من‏ ‏غير‏ ‏الممكن‏  ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏مصيري‏ ‏الهدم‏ ‏بعد‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏المجهود‏ ‏الذي‏ ‏بذل‏ ‏في‏.. ‏أمن‏ ‏الممكن‏ ‏أن‏ ‏أعود‏ ‏الي‏ ‏مستوي‏ ‏الأرض‏ ‏مرة‏ ‏أخري‏ ‏وأصبح‏ ‏مجرد‏ ‏حطام‏ ‏وركام‏..‏كلا‏ .. ‏كلا‏ ‏أرفض‏ ‏هذا‏ ‏المصير‏ ‏بشدة‏ .. ‏وأيضا‏ ‏رفض‏ ‏أصحابي‏ ‏ورفضت‏ ‏بعض‏ ‏الأصوات‏ ‏العاقلة‏ ‏الأخري‏ ‏هذا‏ ‏الاقتراح‏.. ‏واستعانوا‏ ‏بمهندسين‏ ‏آخرين‏ ‏محايدين‏ ‏كتبوا‏ ‏تقارير‏ ‏تفيد‏ ‏انه‏ ‏من‏ ‏الممكن‏ ‏إصلاح‏ ‏العيوب‏ ‏الهندسية‏ ‏الموجودة‏ ‏بي‏ ‏دون‏ ‏اللجوء‏ ‏إلي‏ ‏الهدم‏.. ‏وكان‏ ‏هناك‏ ‏اقتراح‏ ‏بهدم‏ ‏الأربعة‏ ‏أدوار‏ ‏العلوية‏ ‏مني‏.. ‏قالوا‏ ‏ان‏ ‏هذا‏ ‏سيخفف‏ ‏الضغط‏ ‏علي‏.. ‏سيقصرون‏ ‏قامتي‏ .. ‏يا‏ ‏للفضيحة‏.. ‏سأصبح‏ ‏أقل‏ ‏طولا‏ ‏من‏ ‏جيراني‏.. ‏سينظرون‏ ‏إلي‏ ‏من‏ ‏أعلي‏ ‏باستهزاء‏.. ‏لا‏ ‏أقبل‏ ‏ذلك‏ .. ‏ولحسن‏ ‏حظي‏ ‏أن‏ ‏المهندسين‏ ‏أجمعوا‏ ‏علي‏ ‏ان‏ ‏هذا‏ ‏الاقتراح‏ ‏ربما‏ ‏يؤثر‏ ‏علي‏ ‏سلامتي‏ ‏بالكامل‏.. ‏وألغيت‏ ‏الفكرة‏.. ‏أو‏ ‏بمعني‏ ‏أصح‏ ‏تم‏ ‏تأجيلها‏ ‏للدراسة‏ ‏والبحث‏.. ‏تم‏ ‏طرح‏ ‏فكرة‏ ‏أخري‏ ‏من‏ ‏لجنة‏ ‏مختصة‏ ‏وهي‏ ‏تكليف‏ ‏أصحابي‏ ‏بعمل‏ ‏صلبات‏ ‏حديدية‏ ‏وأعمدة‏ ‏إضافية‏ ‏تخترقني‏ ‏من‏ ‏الداخل‏ ‏وتحيط‏ ‏بي‏ ‏من‏ ‏الخارج‏ ‏لتدعيمي‏.. ‏ولاقت‏ ‏هذه‏ ‏الفكرة‏ ‏قبولا‏ ‏من‏ ‏الجميع‏.. ‏وبدأ‏ ‏عمل‏ ‏الصلبات‏ ‏والأعمدة‏.. ‏وتمت‏ ‏تغطيتي‏ ‏بغطاء‏ ‏كبير‏ ‏أسود‏ ‏من‏ ‏أعلي‏ ‏رأسي‏ ‏إلي‏ ‏أسفل‏ ‏قواعدي‏.. ‏ما‏ ‏هذا؟‏.. ‏عروس‏ ‏الحي‏ ‏الراقي‏ ‏ترتدي‏ ‏رداء‏ ‏أسود‏!! .. ‏يا‏ ‏لقسوة‏ ‏الأقدار‏..‏
وعلي‏ ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏محاولات‏ ‏بث‏ ‏الاطمئنان‏ ‏من‏ ‏المسئولين‏ ‏للرأي‏ ‏العام‏ ‏في‏ ‏الصحف‏ ‏والمجلات‏ ‏إلا‏ ‏ان‏ ‏نظرات‏ ‏المتطفلين‏ ‏لم‏ ‏تنتهي‏.. ‏وما‏ ‏زالت‏ ‏الناس‏ ‏خائفة‏ .. ‏ولكن‏ ‏ما‏ ‏يخيفني‏ ‏أكثر‏ ‏هو‏ ‏ان‏ ‏الأخبار‏ ‏التي‏ ‏تنشر‏ ‏عني‏ ‏في‏ ‏الصحف‏ ‏بدأت‏ ‏تقل‏ ‏بل‏ ‏تختفي‏ ‏في‏ ‏بعض‏ ‏الأيام‏.. ‏هناك‏ ‏قضايا‏ ‏أخري‏ ‏بدأت‏ ‏تشغل‏ ‏الناس‏..‏
ولكن‏ ‏ما‏ ‏أسعدني‏ ‏ان‏ ‏قصتي‏ ‏عادت‏ ‏إلي‏ ‏الأضواء‏ ‏مرة‏ ‏أخري‏ ‏بعد‏ ‏ان‏ ‏اهتم‏ ‏رئيس‏ ‏الجمهورية‏ ‏شخصيا‏ ‏بقصتي‏ ‏عندما‏ ‏كان‏ ‏يفتتح‏ ‏أحد‏ ‏المشروعات‏ ‏بالمحافظة‏ ‏فسأل‏ ‏المحافظ‏ ‏أمام‏ ‏الصحفيين‏  ‏عما‏ ‏تم‏ ‏في‏ ‏موضوعي‏.. ‏وعادت‏ ‏الأقلام‏ ‏تفتش‏ ‏عن‏ ‏أخبار‏ ‏جديدة‏ ‏وخفايا‏ ‏لم‏ ‏تنشر‏ ‏من‏ ‏قبل‏ ‏وحوارات‏ ‏مع‏ ‏ملاكي‏ ‏والمؤيدين‏ ‏والمعارضين‏ ‏والجيران‏.. ‏عاد‏ ‏الاهتمام‏ ‏من‏ ‏جديد‏.. ‏وأصبح‏ ‏مجرد‏ ‏ذكر‏ ‏اسمي‏ ‏يلفت‏ ‏النظر‏ ‏الي‏ ‏الحي‏ ‏كله‏.. ‏أصبحت‏ ‏رمزا‏ ‏للمنطقة‏.. ‏أشهر‏ ‏عمارة‏ ‏في‏ ‏مصر‏ ‏أنا‏ ‏الآن‏, ‏ولكن‏ ‏ملاكي‏ ‏هم‏ ‏أتعس‏ ‏الناس‏.. ‏وكذلك‏ ‏المهندسون‏ ‏والمقاولون‏ ‏وحاجزو‏ ‏الشقق‏ ‏والجيران‏ ‏والمسئولون‏ ‏عني‏.. ‏لقد‏ ‏قررت‏ ‏المحكمة‏ ‏حبس‏ ‏مدير‏ ‏المشروع‏ ‏والمهندس‏ ‏الذي‏ ‏أشرف‏ ‏علي‏ ‏تنفيذي‏ ‏وواحد‏ ‏من‏ ‏ملاكي‏.. ‏وما‏ ‏زالت‏ ‏هناك‏ ‏أصوات‏ ‏حاقدة‏ ‏تطالب‏ ‏بهدمي‏..‏
سمعت‏ ‏تصريحا‏ ‏من‏ ‏مسئول‏ ‏بالمحافظة‏ ‏يؤكد‏ ‏فيه‏ ‏انني‏ ‏الآن‏ ‏أصبحت‏ ‏سليمة‏ ‏مائة‏ ‏في‏ ‏المائة‏, ‏وإن‏ ‏الخطورة‏ ‏قد‏ ‏زالت‏ ‏عني‏ ‏تماما‏.. ‏ليت‏ ‏كل‏ ‏الناس‏ ‏يسمعون‏ ‏هذا‏ ‏التصريح‏ ‏ويصدقونه‏.. ‏فأنا‏ ‏ما‏ ‏زلت‏ ‏فارغة‏ .. ‏تخاف‏ ‏الأقدام‏ ‏الاقتراب‏ ‏مني‏.. ‏أشعر‏ ‏بالضمادات‏ ‏تحاصرني‏.. ‏تلفني‏.. ‏أشعر‏ ‏كأنني‏ ‏إنسان‏ ‏عموده‏ ‏الفقري‏ ‏تلف‏ ‏فربطوا‏ ‏حوله‏ ‏الأحزمة‏ ‏وألواح‏ ‏الخشب‏ ‏لتساعده‏ ‏علي‏ ‏الوقوف‏..‏
‏ ‏أصبح‏ ‏حلم‏ ‏يوم‏ ‏الزفاف‏ ‏الذي‏ ‏تحلم‏ ‏به‏ ‏أي‏ ‏عروس‏ ‏بعيد‏ ‏المنال‏ ‏عني‏.. ‏كنت‏ ‏أحلم‏ ‏بالافتتاح‏ ‏الكبير‏ ‏يوم‏ ‏أن‏ ‏تسكن‏ ‏كل‏ ‏شققي‏ ‏بكبار‏ ‏القوم‏ ‏وأزهو‏ ‏بين‏ ‏جيراني‏.. ‏ولكن‏ ‏يبدو‏ ‏انني‏ ‏سأظل‏ ‏طويلا‏ ‏هكذا‏.. ‏عروس‏ ‏بلا‏ ‏زفاف‏!!‏

‏* ‏نشرت‏ ‏في‏ ‏جريدة‏ ‏المساء


عودة‏ ‏سي‏ ‏السيد


عــدت‏    ‏في‏ ‏الثالثة‏ ‏صباحا‏ ‏الي‏  ‏قصري‏ ‏الكبير‏  ‏في‏ ‏بين‏ ‏القصرين‏ ‏وانا‏ ‏أرتدي‏ ‏القفطان‏ ‏الأسود‏ ‏فوق‏ ‏الجلباب‏ ‏الأبيض‏ ‏الناصع‏ ‏والطربوش‏ ‏الأحمر‏ ‏الجميل‏ .. ‏لقد‏ ‏كانت‏ ‏سهرة‏ ‏حمراء‏ ‏في‏ ‏بيت‏ ‏الراقصة‏ ‏اللولبية‏ ‏الشهيرة‏ ‏جدا‏  ‏قضيتها‏ ‏أنا‏ ‏وشلة‏ ‏الأنس‏ ‏في‏ ‏عوامتها‏ ‏بالكيت‏ ‏كات‏ .. ‏فتحت‏ ‏الباب‏ ‏بثقة‏ ‏وقذفت‏ ‏العصا‏ ‏جانبا‏ ‏وصرخت‏ ‏بقوة‏:‏
ـ‏ ‏أمينة‏... ‏إنتي‏ ‏فين‏ ‏يا‏ ‏أمينة؟‏!‏
هرولت‏ ‏زوجتي‏ ‏مسرعة‏ ‏نحوي‏ ‏تخلع‏ ‏عني‏ ‏القفطان‏  ‏والحذاء‏ ‏والجورب‏ ‏وتعلق‏ ‏العصا‏ ‏علي‏ ‏الشماعة‏ ‏قائلة‏ ‏باستكانة‏:‏
ـ‏ ‏معلهشي‏ ‏يا‏ ‏سي‏ ‏مجدي‏ ‏سامحني‏ .. ‏عنيا‏ ‏غفلت‏ ‏في‏ ‏النوم‏ ‏وانا‏ ‏مستنياك‏ ‏في‏ ‏الحرملك‏.‏
جلست‏ ‏بشموخ‏ ‏وكبرياء‏ ‏وأنفة‏ ‏علي‏ ‏الكرسي‏ ‏الكبير‏ ‏في‏ ‏السلاملك‏ ‏وأسرعت‏ ‏هي‏ ‏بإحضار‏ ‏الطشت‏ ‏الذي‏ ‏يحتوي‏ ‏علي‏ ‏ماء‏ ‏دافئ‏ ‏وملح‏ ‏خفيف‏ (‏وذلك‏ ‏كما‏ ‏تعودت‏ ‏كل‏ ‏يوم‏ ‏عند‏ ‏عودتي‏) ‏لراحة‏ ‏قدماي‏ ‏وجلست‏ ‏علي‏ ‏الأرض‏ ‏تدلك‏ ‏أصابع‏ ‏قدمي‏ ‏برفق‏.‏
صرخت‏ ‏فيها‏ ‏مرة‏ ‏أخري‏ : ‏هوا‏ ‏انتي‏ ‏لسه‏ ‏ماحضرتيش‏ ‏الأكل‏ ‏يا‏ ‏أمينة؟‏!‏
ـ‏ ‏العشا‏ ‏جاهز‏ ‏جوا‏ ‏علي‏ ‏السفرة‏ ‏يا‏ ‏سي‏ ‏مجدي‏ ‏وسخن‏ ‏كمان‏ .. ‏أم‏ ‏حنفي‏ ‏لسه‏ ‏حطاه‏ ‏دلوقتي‏.‏
‏... ‏وأنا‏ ‏أتناول‏ ‏الطعام‏ ‏سألتها‏ (‏بحدة‏):‏
ـ‏ ‏العيال‏ ‏اتعشوا‏ ‏يا‏ ‏أمينة؟
ـ‏ ‏طبعا‏ ‏يا‏ ‏سي‏ ‏مجدي‏ .. ‏جم‏ ‏من‏ ‏كلياتهم‏ ‏واتغدو‏ ‏وذاكروا‏ ‏وبعدين‏ ‏اتعشوا‏ ‏وناموا‏ ‏الساعة‏ ‏تسعة‏ ‏بعد‏ ‏ما‏ ‏صلوا‏ ‏العشا‏.‏
سألتها‏ (‏بتكشيرة‏) :‏حد‏ ‏سأل‏ ‏عليا‏ ‏النهارده؟
ـ‏  ‏شفيق‏ ‏أفندي‏ ‏جه‏ ‏وسابلك‏ ‏إيراد‏ ‏محلات‏ ‏العطارة‏ ‏في‏ ‏ظرف‏ ‏حطيتهولك‏ ‏علي‏ ‏الكومدينو‏  ‏ياسي‏ ‏مجدي‏ ‏وعم‏ ‏حسان‏ ‏جاب‏ ‏إيجار‏ ‏بيت‏ ‏السكاكيني‏  .. ‏و‏..‏
ـ‏ ‏خلاص‏ ‏خلاص‏ ‏كفاية‏!‏
كانت‏ ‏واقفة‏ ‏خلفي‏ ‏تنتظر‏ ‏انتهائي‏ ‏من‏ ‏تناول‏ ‏الطعام‏ .. ‏
قلت‏ ‏مزمجرا‏:‏
ـ‏ ‏هوا‏ ‏كل‏ ‏يوم‏ ‏الديك‏ ‏الرومي‏ ‏والحمام‏ ‏المحشي‏ ‏بالفريك‏ ‏والمحمر‏ ‏والمشمر‏ ‏ده‏ ‏يا‏ ‏أمينة؟
ـ‏ ‏كله‏ ‏من‏ ‏فضلة‏ ‏خيرك‏ .. ‏كل‏ ‏يا‏ ‏سي‏ ‏مجدي‏ ‏ورم‏ ‏عضمك‏ ‏بالهنا‏ ‏والشفا‏.. ‏انت‏ ‏بتشقي‏ ‏علشانا‏ ‏ياخويا‏.‏
وبعد‏ ‏أن‏ ‏انتهيت‏ ‏من‏ ‏عشائي‏ ‏اسرعت‏ ‏هي‏ ‏وأم‏ ‏حنفي‏ ‏تجمعان‏ ‏الأطباق‏ .. ‏ثم‏ ‏ذهبت‏ ‏الي‏ ‏غرفة‏ ‏النوم‏ ‏وأسرعت‏ ‏أمينة‏ ‏خلفي‏ ‏حاملة‏ ‏المبخرة‏ ‏قائلة‏ ‏وهي‏ ‏تدور‏ ‏حولي‏ ‏بها‏:‏
ـ‏ ‏اسم‏ ‏النبي‏ ‏حارسك‏ ‏وصاينك‏ ‏ياسي‏ ‏مجدي‏.. ‏رقيتك‏ ‏واسترقيتك‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏عين‏ ‏شافتك‏ ‏ولا‏ ‏صلتشي‏ ‏علي‏ ‏النبي‏..‏
ـ‏ ‏كفاية‏ ‏يا‏ ‏أمينة‏ ‏دخان‏ ‏البخور‏ ‏خنقني
ـ‏ ‏حاضر‏ ‏يا‏ ‏سي‏ ‏مجدي‏.. ‏الحمام‏ ‏جاهز‏ ‏ياسي‏ ‏مجدي
‏.. ‏أخذت‏ ‏حمام‏ ‏الماء‏ ‏الساخن‏ ‏وصعدت‏ ‏إلي‏ ‏السرير‏ ‏النحاسي‏ ‏الجميل‏ ‏لأسترخي‏ ‏عليه‏ ‏بعد‏ ‏عناء‏ ‏يوم‏ ‏طويل‏..‏
‏..............‏
فجأة‏..  ‏سمعت‏ ‏صوتا‏ ‏قويا‏ ‏مندفعا‏ ‏متدفقا‏ ‏متواصلا‏ ‏متفجرا‏ ‏مزمجرا‏ ‏مهددا‏ ‏متوعدا‏:‏
ـ‏ ‏هوا‏  ‏انتا‏ ‏لسه‏ ‏نايم‏ .. ‏قوووووم‏.. ‏الساعة‏ ‏سبعة‏ ‏ونص‏ .. ‏هانتأخر‏ ‏ع‏ ‏الشغل‏.. ‏كمان‏ ‏لسه‏ ‏هـاتتمطع‏.. ‏انا‏ ‏حاسبقك‏ ‏علي‏ ‏الشغل‏ .. ‏إعملك‏ ‏سندوتشين‏.. ‏الجبنة‏ ‏في‏ ‏التلاجة‏ ‏والفينو‏ ‏علي‏ ‏السفرة‏ .. ‏أوعي‏ ‏تنام‏ ‏تاني‏ .. ‏ياللا‏ ‏باي‏.‏
‏.. ‏كان‏ ‏عبد‏ ‏الوهاب‏ ‏يغني‏(‏بروقان‏) ‏في‏ ‏راديو‏ ‏الجيران‏ : ‏إمــتي‏ ‏الزمـــاااان‏ ‏يرجـــع‏ ‏يا‏ ‏جميــل‏!!‏
‏..‏قلت‏ ‏في‏ ‏نفسي‏: ‏إمتي‏ ‏صحيح‏!‏

‏ ‏نشرت‏ ‏في‏ ‏الأهرام‏  ‏الطبعة‏ ‏العربية‏ ‏في‏ 28 / 12 / 2007‏


المكان‏ ‏الآمن


في‏ ‏أول‏ ‏يوم‏ ‏لنا‏ ‏بالشقة‏ ‏التي‏ ‏قررنا‏ ‏أن‏ ‏نقضي‏ ‏بها‏  ‏الإجازة‏ ‏الصيفية‏ ‏بإحدي‏ ‏المدن‏ ‏الجديدة‏  ‏ـ‏ ‏كانت‏  ‏الشقة‏ ‏مكونة‏ ‏من‏ ‏غرفتين‏ ‏وصالة‏, ‏الغرفة‏ ‏الكبيرة‏ ‏بها‏ ‏سريرين‏, ‏والصغري‏ ‏سريرين‏ ‏أيضا‏, ‏وفي‏ ‏الصالة‏ ‏كنبة‏ ‏يتم‏  ‏تحويلها‏ ‏إلي‏ ‏سرير‏ ‏عند‏ ‏اللزوم‏ ‏وعدة‏ ‏كراسي‏ ‏وسفرة‏ ‏صغيرة‏ ‏وتليفزيون‏ 12 ‏بوصة‏, ‏كنا‏ ‏في‏ ‏المساء‏ ‏نشاهد‏ ‏المسلسل‏ ‏العربي‏ (‏قاتل‏ ‏بلا‏ ‏أجر‏) ‏الذي‏ ‏تابعنا‏ ‏ثلاثين‏ ‏حلقة‏ ‏منه‏ ‏ومازالت‏ ‏الأحداث‏ ‏غامضة‏ ‏ومثيرة‏  (‏وهذا‏ ‏نادرا‏ ‏ما‏ ‏يحدث‏ !) ‏ظلت‏ ‏أبصارنا‏ ‏شاخصة‏ ‏تتابع‏ ‏بشغف‏ ‏هذه‏ ‏الحلقة‏ ‏التي‏ ‏بدأت‏ ‏تتكشف‏ ‏فيها‏ ‏الأحداث‏, ‏لمحناه‏ ‏بطرف‏ ‏أعيننا‏ ‏يمرق‏ ‏من‏ ‏أمامنا‏ ‏بسرعة‏ ‏البرق‏  ‏باتجاه‏ ‏الغرفة‏ ‏الكبيرة‏ ‏ثم‏ ‏يعود‏ ‏ويلف‏ ‏ويجري‏ ‏يمينا‏ ‏ويسارا‏ ‏وهنا‏ ‏وهناك‏ ‏أمامنا‏ ‏في‏ ‏ذعر‏ ‏بالغ‏, ‏وصرخت‏ ‏زوجتي‏ ‏والأبناء‏: ‏فار‏ .. ‏فار‏!.. ‏وهلعوا‏ ‏جميعا‏ ‏خوفا‏ ‏منه‏ ‏علي‏, ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏صغر‏ ‏حجمه‏, ‏الذي‏ ‏يزيد‏ ‏عن‏ ‏حجم‏ ‏صرصار‏.. ‏لم‏ ‏تمض‏ ‏لحظات‏ ‏حتي‏ ‏اختفي‏.. ‏وقرر‏ ‏ابني‏ ‏محمود‏ ‏انه‏ ‏في‏ ‏الغرفة‏ ‏الكبيرة‏, ‏ولكن‏ ‏ابنتي‏ ‏ضحي‏ ‏كان‏ ‏لها‏ ‏رأي‏ ‏آخر‏, ‏فقد‏ ‏أكدت‏ ‏انه‏ ‏في‏ ‏الغرفة‏ ‏الصغيرة‏..  ‏انقسمت‏ ‏الآراء‏ ‏فكان‏ ‏القرار‏ ‏أن‏ ‏نغلق‏ ‏الغرفتين‏ ‏ونظل‏ ‏في‏ ‏الصالة‏, ‏قطعا‏ ‏للشك‏ ‏باليقين‏.. ‏أرسلت‏ ‏إبني‏ ‏ليشتري‏ ‏مصيدة‏ ‏وذهبت‏ ‏أنا‏ ‏إلي‏ ‏الصيدلية‏ ‏لشراء‏ ‏أي‏ ‏شيء‏ ‏يصلح‏ ‏لمواجهة‏ ‏هذا‏ ‏الضيف‏ ‏المزعج‏.. ‏أخبرني‏ ‏الصيدلي‏ ‏أنه‏ ‏توجد‏ ‏لديه‏ ‏عجينة‏ ‏عجيبة‏ ‏تجتذب‏ ‏الفئران‏ ‏فتقتلهم‏ ‏فورا‏ ‏عند‏ ‏أكلها‏.. ‏وهناك‏ ‏أيضا‏ ‏مادة‏ ‏لاصقة‏ ‏توضع‏ ‏علي‏ ‏سطح‏ ‏لوح‏ ‏خشب‏ ‏أو‏ ‏كرتون‏ ‏ويوضع‏ ‏فوقها‏ ‏بعض‏ ‏المأكولات‏ ‏التي‏ ‏تحبها‏ ‏الفئران‏ ‏مثل‏ ‏الجبن‏ ‏الرومي‏ ‏والطماطم‏ ‏والخيار‏ ‏وخلافه‏.. ‏فطلبت‏ ‏منه‏ ‏أن‏ ‏يأتي‏ ‏لي‏ ‏بالنوعين‏.. ‏وجاء‏ ‏الإبن‏ ‏بالمصيدة‏  ‏وأمسك‏ ‏كلا‏ ‏منا‏ ‏بشبشب‏ ‏وعصاة‏ ‏في‏ ‏يديه‏.. ‏وهكذا‏ ‏أعددنا‏ ‏العدة‏ ‏للقتال‏.. ‏ودخلت‏ ‏إلي‏ ‏الغرفة‏ ‏الأولي‏ ‏ووضعت‏ ‏المصيدة‏ .. ‏وخرجت‏ ‏بسرعة‏ ‏مغلقا‏ ‏الباب‏ ‏خلفي‏ ‏بإحكام‏  ‏لأضع‏ ‏قطع‏ ‏من‏ ‏العجينة‏ ‏القاتلة‏ ‏في‏ ‏أنحاء‏ ‏الغرفة‏ ‏الأخري‏ ‏واللوح‏ ‏الذي‏ ‏تعلوه‏ ‏المادة‏ ‏اللاصقة‏ ‏في‏ ‏وسط‏ ‏الغرفة‏ ‏ولم‏ ‏أنس‏  ‏أن‏ ‏أضع‏ ‏له‏ ‏عينات‏ ‏متنوعة‏ ‏من‏ ‏المأكولات‏ ‏الشهية‏ ‏عليها‏ ‏بالإضافة‏ ‏الي‏ ‏قطعة‏ ‏من‏ ‏العجينة‏ (‏زيادة‏ ‏في‏ ‏التأكيد‏!).‏
واجتمعنا‏ ‏في‏ ‏الصالة‏ ‏مرة‏ ‏أخري‏ ‏لمناقشة‏ ‏كيف‏ ‏سننام‏ ‏؟‏.. ‏كانت‏ ‏الصالة‏ ‏هي‏ (‏المكان‏ ‏الآمن‏ ‏الوحيد‏).. ‏والكنبة‏ ‏الاستوديو‏ ‏هي‏ ‏المكان‏ ‏الوحيد‏ ‏أيضا‏ ‏الذي‏ ‏يصلح‏ ‏للنوم‏.. ‏لذلك‏ ‏قررت‏ ‏أنا‏ ‏التضحية‏ ‏بنفسي‏ ‏بصفتي‏ ‏الأب‏ ‏طبعا‏ ‏الذي‏ ‏يجب‏ ‏أن‏ ‏يظهر‏ ‏بأنه‏ ‏غير‏ ‏خائف‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏الفأر‏ (‏الفسل‏) .. ‏وفعلا‏ ‏لم‏ ‏أكن‏ ‏خائفا‏ ‏منه‏ ‏وكنت‏ ‏أعتبره‏ ‏مغلوبا‏ ‏علي‏ ‏أمره‏ ‏وقد‏ ‏وجد‏ ‏نفسه‏ ‏فجأة‏ ‏وسط‏ ‏كل‏ ‏هؤلاء‏ ‏الأعداء‏ ‏وهي‏ ‏حرب‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏يريدها‏ ‏علي‏ ‏الإطلاق‏, ‏ثم‏ ‏إنني‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏واجهت‏ ‏آبائه‏ ‏وأجداده‏ ‏في‏ ‏صولات‏ ‏قتال‏ ‏عديدة‏!‏
دخلت‏ ‏الي‏ ‏الغرفة‏ ‏الكبيرة‏ ‏وأغلقت‏ ‏الباب‏ ‏خلفي‏ ‏ولكن‏ ‏ابنتي‏ ‏الصغيرة‏ ‏نوران‏ ‏ذات‏ ‏السنوات‏ ‏الأربع‏ ‏صرخت‏: ‏بابا‏ ‏بابا‏ .. ‏متنامش‏ ‏مع‏ ‏الفار‏ ‏يا‏ ‏بابا‏ .. ‏اخرج‏ ‏يابابا‏ .. ‏وظلت‏ ‏هكذا‏ ‏تصرخ‏ ‏خائفة‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يلتهمني‏ ‏الفأر‏ : ‏أخرج‏ ‏يابابا‏ .. ‏يابابا‏ .. ‏حتي‏ ‏أشفقت‏ ‏عليها‏, ‏وقررت‏ ‏الجلوس‏ ‏معها‏ ‏حتي‏ ‏نامت‏  ‏علي‏ ‏الكنبة‏ ‏الاستوديو‏ ‏باعتبارها‏ (‏المكان‏ ‏الآمن‏)  ‏واضطر‏ ‏باقي‏ ‏أفراد‏ ‏العائلة‏ ‏الي‏ ‏التناوب‏ ‏في‏ ‏النوم‏ ‏ما‏ ‏بين‏ ‏الكراسي‏ ‏و‏(‏المكان‏ ‏الآمن‏), ‏وعدت‏ ‏أنا‏ ‏للمواجهة‏ ‏الحاسمة‏ ‏وقضاء‏ ‏الليلة‏ ‏مع‏ ‏الفار‏ ‏اللعين‏..‏
لم‏ ‏أستطع‏ ‏منع‏ ‏نفسي‏ ‏من‏ ‏ترقب‏ ‏ظهوره‏ ‏بين‏ ‏لحظة‏ ‏وأخري‏ ‏حتي‏ ‏أقضي‏ ‏عليه‏ ‏وأتخلص‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏التوتر‏ ‏الذي‏ ‏عم‏ ‏البيت‏, ‏لذلك‏ ‏كنت‏ ‏أترهف‏ ‏السمع‏ ‏منتبها‏  ‏لأي‏ ‏صوت‏ ‏أو‏ ‏همسة‏ ‏في‏ ‏الدولاب‏ ‏أو‏ ‏من‏ ‏تحت‏ ‏السرير‏ ‏أو‏ ‏بين‏ ‏الكتب‏ .. ‏لم‏ ‏أسمع‏ ‏أي‏ ‏شئ‏ , ‏لذلك‏ ‏بدأ‏ ‏النوم‏ ‏يتسلل‏ ‏تدريجيا‏ ‏إلي‏ ‏عيني‏, ..‏وفجأة‏ ‏ظهر‏ ‏أمامي‏ ‏ضخم‏ ‏الحجم‏ ‏يحاول‏ ‏الهجوم‏ ‏علي‏ ‏فأمسكت‏ ‏بعصا‏ ‏غليظة‏ ‏لا‏ ‏أعرف‏ ‏من‏ ‏أين‏ ‏ظهرت‏ ‏أمامي‏ ‏وظللت‏ ‏أضرب‏ ‏فيه‏ ‏بشدة‏ ‏لكن‏ ‏لم‏ ‏تؤثر‏ ‏فيه‏ ‏الضربات‏ ‏وواصل‏ ‏التقدم‏ ‏نحوي‏ ‏فلما‏ ‏اقترب‏ ‏متضخما‏ ‏جدا‏ ‏استيقظت‏ ‏مفزوعا‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏الكابوس‏ ‏المزعج‏, ‏تلفتت‏ ‏حولي‏ ‏وألقيت‏ ‏نظرة‏ ‏علي‏ ‏المصيدة‏ ‏لكنها‏ ‏كانت‏ ‏فارغة‏ ‏إلا‏ ‏من‏ ‏قطع‏ ‏اللانشون‏ ‏والجبن‏ ‏الرومي‏..  ‏قضيت‏ ‏الليلة‏ ‏في‏ ‏نوم‏ ‏متقطع‏ ‏وأحلام‏ ‏مزعجة‏.. ‏حتي‏ ‏صحوت‏ ‏في‏ ‏الصباح‏ ‏علي‏ ‏طرقات‏ ‏ابنتي‏ (‏نونة‏) ‏بابا‏ .. ‏بابا‏ .. ‏الحق‏..  ‏فخرجت‏ ‏بسرعة‏ ‏وأغلقت‏ ‏الباب‏ ‏خلفي‏ (‏بإحكام‏) ‏كالعادة‏.. ‏
وبدأنا‏ ‏نستعد‏ ‏لتناول‏ ‏الإفطار‏  ‏ففتح‏ ‏ابني‏ ‏الباب‏ ‏ليذهب‏ ‏لشراء‏  ‏الخبز‏ ‏من‏ ‏السوبر‏ ‏ماركت‏ ‏المواجه‏ ‏للعمارة‏ ‏فإذا‏ ‏بالفأر‏ ‏اللعين‏ ‏يخرج‏ ‏من‏ ‏خلف‏ (‏الكنبة‏ ‏الاستوديو‏) ‏ويتسلل‏ ‏في‏ ‏هدوء‏ ‏تجاه‏ ‏باب‏ ‏الشقة‏, ..‏الدهشة‏  ‏شلت‏ ‏حركتنا‏ ‏جميعا‏.. ‏كيف‏ ‏استطاع‏ ‏هذاالفأر‏ ‏أن‏ ‏يخدعنا‏ ‏جميعا‏ ‏ويختبئ‏ ‏في‏ ‏هذا‏ ‏المكان‏ .. ‏الآمن‏!!‏

المعلم‏ ‏الصغير


فــي‏    ‏صورة‏ ‏نقلتها‏ ‏وكالة‏ ‏أنباء‏ ‏رويتر‏ .. ‏طفل‏ ‏فلسطيني‏ ‏صغير‏ ‏لايتجاوز‏ ‏السنوات‏ ‏الست‏ ‏يحمل‏ ‏بكلتا‏ ‏يديه‏ ‏حجرا‏  ‏ليسد‏ ‏به‏ ‏الطريق‏ ‏أمام‏ ‏الجنود‏ ‏الإسرائيليين‏ ‏في‏ ‏مخيم‏ ‏العروب‏ ‏بالضفة‏ ‏الغربية‏ .. ‏ونظرات‏ ‏الألم‏ ‏والحسرة‏ ‏والخوف‏ ‏من‏ ‏المجهول‏ ‏تكسو‏ ‏وجه‏ ‏هذا‏ ‏الطفل‏.. ‏إنه‏ ‏يبكي‏ ‏من‏ ‏غير‏ ‏دموع‏.‏
‏ ‏لقد‏ ‏ذكرتني‏ ‏صورة‏ ‏هذا‏ ‏الطفل‏ ‏بقصة‏ ‏طفل‏ ‏آخر‏ ‏من‏ ‏أطفال‏ ‏الحجارة‏ ‏الأبطال‏ ‏في‏ ‏أثناء‏ ‏انتفاضتهم‏ ‏الماضية‏ ‏منذ‏ ‏خمس‏ ‏سنوات‏ .. ‏ولقد‏ ‏أطلق‏ ‏عليهم‏ ‏هذا‏ ‏الإسم‏ ‏لأن‏ ‏سلاحهم‏ ‏الوحيد‏ ‏في‏ ‏مواجهة‏ ‏دبابات‏ ‏الإسرائيليين‏ ‏كان‏ ‏هو‏ ‏الحجارة‏.‏
هذا‏ ‏الطفل‏ ‏عمره‏ ‏تسع‏ ‏سنوات‏ ‏كان‏ ‏يقف‏ ‏أمام‏ ‏خيمة‏ ‏أسرته‏ ‏يقذف‏ ‏بمقلاعه‏ ‏الصغير‏ ‏الجنود‏ ‏الإسراذيليين‏ ‏المختبئين‏ ‏خلف‏ ‏الدبابات‏ ‏ووراء‏ ‏الدروع‏ ‏الواقية‏.. ‏كانت‏ ‏هذه‏ ‏الأحجار‏ ‏الصغيرة‏ ‏المنطلقة‏ ‏والمندفعة‏ ‏من‏ ‏أيدي‏ ‏الأطفال‏ ‏الصغار‏ ‏تمثل‏ ‏رعبا‏ ‏لهؤلاء‏  ‏الجنود‏ .. ‏
أحاط‏ ‏الجنود‏ ‏بالطفل‏ ‏وأمسكوا‏ ‏به‏.. ‏وأخذوه‏ ‏إلي‏ ‏معسكرهم‏ ‏لاستجوابه‏.. ‏وبعد‏ ‏الضغط‏ ‏عليه‏ ‏وتعذيبه‏ ‏لمعرفة‏ ‏من‏ ‏علمه‏ ‏قذف‏ ‏الطوب‏ ‏بالمقلاع‏ ‏اعترف‏ ‏الطفل‏ ‏الصغير‏ ‏أن‏ ‏أخاه‏ ‏مهند‏ ‏هو‏ ‏الذي‏ ‏علمه‏ ‏هذا‏... ‏ساق‏ ‏الجنود‏ ‏الطفل‏ ‏أمامهم‏ ‏ليدلهم‏ ‏علي‏ ‏مهند‏ ‏هذا‏ ‏الذي‏ ‏يقود‏ ‏الأطفال‏ ‏ضدهم‏ ‏ويعلمهم‏ ‏الثورة‏.. ‏أشار‏ ‏الطفل‏ ‏إلي‏ ‏الخيمة‏ .. ‏اقتحموها‏ .. ‏لم‏ ‏يجدوا‏ ‏سوي‏ ‏طفل‏ ‏صغير‏ ‏عمره‏ ‏ست‏ ‏سنوات‏!‏
كان‏ ‏هذا‏ ‏الطفل‏ ‏هو‏ ‏مهند‏ .. ‏المعلم‏ ‏الصغير‏ ‏الذي‏ ‏أجاد‏ ‏العزف‏ ‏علي‏ ‏المقلاع‏ ‏وقاد‏ ‏هذه‏ ‏السيمفونية‏ ‏الرائعة‏ ‏التي‏ ‏استمرت‏ ‏عدة‏ ‏سنوات‏ ‏حتي‏ ‏زلزلزت‏ ‏العدو‏ ‏وجعلته‏ ‏يتجه‏ ‏للمفاوضات‏ ‏التي‏ ‏أدت‏ ‏إلي‏ ‏الاتفاقات‏ ‏ثم‏ ‏مناطق‏ ‏الحكم‏ ‏الذاتي‏.. ‏ولو‏ ‏كانت‏ ‏هذه‏ ‏الثورة‏ ‏قد‏ ‏استمرت‏ ‏لحققت‏ ‏الكثير‏ .. ‏ولكننا‏ ‏نلاحظ‏ ‏الآن‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الثورة‏ ‏ولدت‏ ‏من‏ ‏جديد‏ .. ‏وعادت‏ ‏لتملأ‏ ‏قلوب‏ ‏المعتدين‏ ‏خوفا‏ ‏وهلعا‏.. ‏ولعلها‏ ‏تكمل‏ ‏ما‏ ‏بدأته‏ ‏منذ‏ ‏سنوات‏!!‏

نشرت‏ ‏في‏ ‏مجلة‏ ‏علاء‏ ‏الدين‏ ‏في‏ 8 / 5 / 1997‏


الزمار


أســـند‏ ‏رأسه‏ ‏علي‏ ‏مقعد‏ ‏الطائرة‏ ‏وطار‏ ‏بخياله‏ ‏إلي‏ ‏أرض‏ ‏الوطن‏.. ‏عائد‏ ‏هو‏ ‏الآن‏ ‏إلي‏ ‏مسقط‏ ‏رأسه‏ ‏بعد‏ ‏رحلة‏ ‏عمل‏ ‏وعناء‏ ‏استغرقت‏ ‏أربع‏ ‏سنوات‏ ‏فضل‏ ‏أن‏ ‏يقضيها‏ ‏دفعة‏ ‏واحدة‏ ‏حتي‏ ‏لا‏ ‏يشعر‏ ‏بعذاب‏ ‏الاغتراب‏ ‏فيما‏ ‏لو‏ ‏عاد‏ ‏لعدة‏ ‏أيام‏ ‏كل‏ ‏سنة‏.. ‏مرت‏ ‏بخاطره‏ ‏كل‏ ‏أحداث‏ ‏السنوات‏ ‏الأربع‏.. ‏لقد‏ ‏سافر‏ ‏إلي‏ ‏تلك‏ ‏الدولة‏ ‏الخليجية‏ ‏الصغيرة‏ ‏ليعمل‏ ‏بها‏ ‏مهندسا‏ ‏للبترول‏ ‏وساهم‏ ‏في‏ ‏التنقيب‏ ‏واكتشاف‏ ‏وحفر‏ ‏العديد‏ ‏من‏ ‏آبار‏ ‏البترول‏ .‏
تري‏ ‏كيف‏ ‏يتحرك‏ ‏ابنه‏ ‏الصغير‏ ‏هيثم‏.. ‏لقد‏ ‏ترك‏ ‏زوجته‏ ‏حاملا‏ ‏فيه‏ ‏في‏ ‏شهرها‏ ‏الثالث‏, ‏وعندما‏ ‏علم‏ ‏بالخبر‏ ‏اختار‏ ‏له‏ ‏اسما‏ ‏وأخبرها‏ ‏به‏ ‏تليفونيا‏.. ‏إن‏ ‏عمره‏ ‏الآن‏ ‏ثلاث‏ ‏سنوات‏ ‏ونصف‏ ‏السنة‏ ‏ولم‏ ‏يره‏ ‏وجها‏ ‏لوجه‏.. ‏أحدث‏ ‏صور‏ ‏له‏ ‏أرسلتها‏ ‏له‏ ‏زوجته‏ ‏علي‏ ‏الإنترنت‏ ‏ونقلها‏ ‏علي‏ ‏تليفونه‏ ‏المحمول‏.. ‏أخذ‏ ‏يتصفحها‏ ‏ويراه‏ ‏في‏ ‏مراحله‏ ‏المختلفة‏ .. ‏كان‏ ‏الاتصال‏ ‏شبه‏ ‏يومي‏ ‏مع‏ ‏زوجته‏ ‏علي‏ ‏الإنترنت‏ .. ‏تروي‏ ‏له‏ ‏أحداث‏ ‏اليوم‏ .. ‏ومشاجراتها‏ ‏الخفيفة‏ ‏مع‏ ‏والدته‏ .. ‏وكيف‏ ‏ان‏ ‏اخته‏ ‏قد‏ ‏عبست‏ ‏في‏ ‏وجهها‏ ‏اليوم‏ .. ‏وأخاه‏ ‏زجر‏ ‏هيثم‏ ‏عندما‏ ‏كان‏ ‏يمزح‏ ‏معه‏ ‏بألفاظ‏ ‏اعتبرها‏ ‏أخوه‏ ‏غير‏ ‏مهذبة‏.. ‏كيف‏ ‏تعلم‏ ‏الأبناء‏ ‏الصلاة‏ , ‏وصورهم‏ ‏وهم‏ ‏يصلون‏.. ‏هيثم‏ ‏يحفظ‏ ‏كلمات‏ ‏قليلة‏ ‏من‏ ‏القرآن‏ ‏الآن‏ ‏رغم‏ ‏صغر‏ ‏سنه‏..  ‏كم‏ ‏هو‏ ‏مشتاق‏ ‏لرؤية‏ ‏وسماع‏ ‏صوت‏ ‏هذا‏ ‏العفريت‏.. ‏الموبايل‏ ‏والإنترنت‏ ‏لايكفيان‏.. ‏والدته‏ ‏تقول‏ ‏انه‏ ‏شقي‏ ‏جدا‏.. ‏أما‏ ‏أخته‏ ‏زينب‏ ‏فقد‏ ‏حفظت‏ ‏القرآن‏ ‏كله‏ ‏وأختها‏ ‏هاجر‏ ‏أوشكت‏ ‏علي‏ ‏حفظه‏ .. ‏أما‏ ‏هبة‏ ‏الله‏ ‏فقد‏ ‏حفظت‏ ‏نصف‏ ‏القرآن‏ ‏فقط‏ ‏وتواصل‏ ‏الحفظفي‏ ‏كتاب‏ ‏القرية‏.. ‏
‏ ‏أخرجته‏ ‏المضيفة‏ ‏من‏ ‏شروده‏ ‏البعيد‏ ‏وهي‏ ‏تسأله‏ ‏أي‏ ‏مشروب‏ ‏يفضل؟‏ ‏نظر‏ ‏اليها‏ ‏نظرة‏ ‏طويلة‏ .. ‏أين‏ ‏كنت‏ .. ‏ما‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏الجمال‏.. ‏فعلا‏.. ‏لابد‏ ‏من‏ ‏تشجيع‏ ‏المنتج‏ ‏الوطني‏.. ‏البلدي‏ ‏يكسب‏.. ‏يا‏ ‏حبيبتي‏ ‏يا‏ ‏مصر‏ .. ‏سألها‏: ‏هل‏ ‏الملائكة‏ ‏تظهر‏ ‏نهارا؟‏ ‏سألته‏ ‏باسمة‏ ‏مرة‏ ‏أخري‏ ‏عما‏ ‏يطلب‏ ‏لكنه‏ ‏كان‏ ‏لحوحا‏ ‏ولزجا‏ ‏كعادته‏ ‏عندما‏ ‏يري‏ ‏أي‏ ‏امرأة‏ : ‏مصرية‏ ‏طبعا‏.. ‏مش‏ ‏كده‏ .. ‏رغم‏ ‏ان‏ ‏أول‏ ‏ما‏ ‏شفتك‏ ‏اتصورتك‏ ‏أجنبية‏ ‏أو‏ ‏لبنانية‏.. ‏قالت‏ ‏له‏ : ‏أيوة‏ ‏مصرية‏ ‏ياسيدي‏.. ‏ومن‏ ‏شبرا‏ ‏كمان‏.. ‏حاتشرب‏ ‏إيه‏.. ‏ورايا‏ ‏شغل‏ ‏كتير‏.. ‏حارجعلك‏ ‏تاني‏, ‏قال‏ ‏لها‏: ‏أي‏ ‏حاجة‏ ‏منك‏ ‏حتبقي‏ ‏زي‏ ‏السكر‏. ‏شكرته‏ ‏علي‏ ‏هذه‏ ‏المجاملة‏ ‏وانصرفت‏..‏
‏ ‏تتضارب‏ ‏في‏ ‏داخله‏ ‏مشاعر‏ ‏كثيرة‏.. ‏يطل‏ ‏ببصره‏ ‏علي‏ ‏السحب‏ ‏التي‏ ‏تشقها‏ ‏الطائرة‏ ‏وتستغرقه‏ ‏الذكريات‏ ‏ويسترجع‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏مر‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏مواقف‏ .. ‏يتذكر‏ ‏صباه‏ ‏في‏ ‏قريته‏ ‏الريفية‏ ‏الجميلة‏ .. ‏يتذكر‏ ‏بهانة‏ ‏وشلبية‏ ‏وام‏ ‏الخير‏ ‏وحلاوتهم‏ ‏وفرحانة‏  ‏وست‏ ‏الدار‏ ‏وخضرة‏  ‏ومغامراته‏ ‏الشقية‏ ‏معهن‏.. ‏آه‏.. ‏ما‏ ‏أحلي‏ ‏الريف‏ ‏وما‏ ‏أروعه‏ .. ‏محلاها‏ ‏عيشة‏ ‏الفلاح‏!‏
ثم‏ ‏تذكر‏  ‏نزوحه‏ ‏من‏ ‏القرية‏ ‏بعد‏ ‏نجاحه‏ ‏بتفوق‏ ‏في‏ ‏الثانوية‏ ‏العامة‏ ‏ليلتحق‏ ‏بجامعة‏ ‏القاهرة‏.. ‏ومغامراته‏ ‏الجريئة‏ ‏مع‏ ‏زميلاته‏ ‏كريمان‏ ‏وسوزي‏ ‏وإنجي‏ ‏وريهام‏ ‏ونيهال‏ ‏وغيرهن‏.. ‏رغم‏ ‏ولعه‏ ‏بالنساء‏ ‏إلا‏ ‏ان‏ ‏هذا‏ ‏لم‏ ‏يؤثر‏ ‏علي‏ ‏تفوقه‏ ‏الدراسي‏ ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏كان‏ ‏يجذب‏ ‏العديد‏ ‏من‏ ‏الفتيات‏ ‏إليه‏ ‏لتستفدن‏ ‏من‏ ‏نبوغه‏ ‏بالإضافة‏ ‏الي‏ ‏كرمه‏ ‏الحاتمي‏ ‏الذي‏ ‏كان‏ ‏يتجلي‏ ‏مع‏ ‏الفتيات‏ ‏فقط‏ ‏في‏ ‏حفلات‏ ‏الديسكو‏ ‏والرحلات‏ ‏الجامعية‏.. ‏وبعد‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏المغامرات‏ ‏فإنه‏ ‏بعد‏ ‏اختبارات‏ ‏عميقة‏ ‏ودراسة‏ ‏مستفيضة‏ ‏للفتيات‏ ‏اللاتي‏ ‏تسكن‏ ‏في‏ ‏المنطقة‏ ‏المحيطة‏ ‏بشقته‏ ‏بالدقي‏ ‏شادية‏ ‏وإيمان‏ ‏وليلي‏ ‏وفتحية‏ ‏وامتثال‏ ‏وسيدة‏ ‏وكريمة‏,  ‏فإنه‏ ‏تقدم‏ ‏لخطبة‏  ‏جارته‏ ‏بدرية‏ ‏بالطريقة‏ ‏التقليدية‏ ‏البحتة‏.. ‏لكن‏ ‏بعد‏ ‏ما‏ ‏عاناه‏ ‏من‏ ‏مشاحنات‏ ‏مع‏ ‏أمها‏ ‏فإنه‏ ‏لم‏ ‏يستطع‏ ‏تكملة‏ ‏المشوار‏ ‏معها‏ .. ‏انها‏ ‏تتبع‏ ‏أمها‏ ‏كالشاه‏.. ‏ضحي‏ ‏بالشبكة‏ ‏والهدايا‏ ‏واشتري‏ ‏راحته‏..‏ليست‏ ‏هي‏ ‏فتاة‏ ‏أحلامه‏.. ‏دائما‏ ‏كان‏ ‏يشعر‏ ‏أن‏ ‏هناك‏ ‏شيئا‏ ‏ما‏ ‏ينقص‏ ‏كل‏ ‏فتاة‏ ‏عرفها‏.. ‏إنه‏ ‏يبحث‏ ‏عن‏ ‏الكمال‏ ‏ويعلم‏ ‏جيدا‏ ‏انه‏ ‏غير‏ ‏موجود‏ ‏في‏ ‏البشر‏ ‏علي‏ ‏الأرض‏.. ‏ثم‏ ‏سأل‏ ‏نفسه‏ ‏في‏ ‏لحظة‏ ‏صدق‏ ‏نادرة‏: ‏هل‏ ‏لو‏ ‏عثر‏ ‏علي‏ ‏هذه‏ ‏الإنسانة‏ ‏الكاملة‏ ‏التي‏ ‏يتمناها‏ .. ‏هل‏ ‏سترضي‏ ‏به‏ .. ‏هل‏ ‏هو‏ ‏كامل؟‏.. ‏انه‏ ‏يعلم‏ ‏جيدا‏ ‏إنه‏ ‏من‏ ‏أنقص‏ ‏الرجال‏ ‏وبه‏ ‏كل‏ ‏العبر‏.. ‏ربما‏ ‏يعوض‏ ‏ذلك‏ ‏تفوقه‏ ‏الدراسي‏ ‏وعمله‏ ‏المرموق‏ ‏فيما‏ ‏بعد‏ ‏كمهندس‏ ‏ناجح‏ ‏في‏ ‏أكبر‏  ‏شركات‏ ‏البترول‏ ‏الوطنية‏.. ‏لكنه‏ ‏في‏ ‏قرارة‏ ‏نفسه‏ ‏غير‏ ‏راض‏ ‏بالمرة‏ ‏عن‏ ‏كل‏ ‏تصرفاته‏.. ‏آفته‏ ‏الكبري‏ ‏النساء‏.. ‏لقد‏ ‏فكر‏ ‏كثيرا‏ ‏أن‏ ‏يرجع‏ ‏عن‏ ‏تلك‏ ‏العادة‏ ‏السيئة‏ .. ‏انه‏ ‏يعشقهن‏ .. ‏كل‏ ‏تفكيره‏ ‏ينحصر‏ ‏في‏ ‏أن‏ ‏ينال‏ ‏أي‏ ‏أمرأة‏ ‏تصادفه‏.. ‏لايهمه‏ ‏العواقب‏.. ‏لكن‏ ‏الله‏ ‏ستره‏ ‏كثيرا‏ .. ‏شئ‏ ‏ما‏ ‏بداخله‏ ‏يوخزه‏ ‏في‏ ‏كل‏ ‏مرة‏ ‏يخطأ‏ ‏فيها‏.. ‏يؤنبه‏.. ‏يلومه‏ .. ‏لكنه‏ ‏سرعان‏ ‏ما‏ ‏يعود‏ ‏لحالته‏ ‏السابقة‏ .. ‏تماما‏ ‏كما‏ ‏سمع‏ ‏جده‏ ‏يوما‏ ‏يقول‏: ‏يمـوت‏ ‏الزمـار‏ ‏وصبـاعه‏ ‏بيلعــب‏.. ‏
‏  ‏جاءته‏ ‏المضيفة‏ ‏بفنجان‏ ‏من‏ ‏القهوة‏ ‏وقدمته‏ ‏إليه‏ ‏بلطف‏ ‏ولم‏ ‏ينس‏ ‏أن‏ ‏يرمقها‏ ‏بطرف‏ ‏عينيه‏ ‏معاودا‏ ‏مغازلته‏ ‏إياها‏ ‏بعباراته‏ ‏المعتادة‏ ‏فسألته‏ ‏المضيفة‏ ‏بطريقة‏ ‏مباشرة‏ : ‏انت‏ ‏عاوز‏ ‏مني‏ ‏إيه؟‏ ‏قال‏ ‏لها‏ ‏بطريقة‏ ‏أكثر‏ ‏مباشرة‏: ‏عاوزك‏! ‏قالت‏ : ‏أنا‏ ‏مخطوبة‏.. ‏رد‏: ‏مش‏ ‏مهم‏! ‏قالت‏: ‏يعني‏ ‏إيه‏ ‏مش‏ ‏مهم‏.. ‏انت‏ ‏غريب‏ ‏قوي‏ .. ‏قال‏ ‏لها‏: ‏أنا‏ ‏مش‏ ‏غريب‏ .. ‏أنا‏ ‏المهندس‏ ‏أنور‏ ‏عبدالغفور‏ .. ‏مهندس‏ ‏بترول‏.. ‏قالت‏ ‏له‏: ‏تشرفنا‏ ‏يا‏ ‏باشمهندس‏.. ‏قال‏ ‏لها‏: ‏واسم‏ ‏القمر‏ ‏إيه؟‏ ‏قالت‏: ‏زي‏ ‏ما‏ ‏انت‏ ‏قلت‏ ‏بالضبط‏ .. ‏قمر‏ ‏شحاتة‏.. ‏قال‏: ‏فعلا‏ ‏أنا‏ ‏قلبي‏ ‏دليلي‏.. ‏قمر‏ ‏وانتي‏ ‏قمر‏ ‏فعلا‏ .. ‏قالت‏ ‏له‏ ‏عن‏ ‏اذنك‏ ..(‏ارتبكت‏ ‏واحمر‏ ‏وجهها‏ ‏وسارعت‏ ‏بالانصراف‏).‏
تذكر‏ ‏حين‏ ‏عاد‏ ‏إلي‏ ‏القرية‏ ‏ليطلب‏ ‏من‏ ‏أمه‏ ‏أن‏ ‏تبحث‏ ‏له‏ ‏عن‏ ‏عروس‏ ‏فاختارت‏ ‏له‏ ‏زوجته‏ ‏الحالية‏ ‏فريدة‏ ‏وقد‏ ‏كانت‏ ‏تعمل‏ ‏مدرسة‏ ‏لغة‏ ‏انجليزية‏ ‏في‏ ‏المدرسة‏ ‏الإعدادية‏ ‏في‏ ‏المدينة‏ ‏المجاورة‏ ‏لقريته‏ ‏ومن‏ ‏أسرة‏ ‏متدينة‏ ‏فوالدها‏ ‏شيخ‏ ‏جامع‏ ‏القرية‏ ‏ومأذونها‏.. ‏لقد‏ ‏أنجبت‏ ‏له‏ ‏ثلاث‏ ‏بنات‏ ‏وولد‏ .. ‏هيثم‏ .‏
وتذكر‏ ‏النساء‏ ‏اللاتي‏ ‏عرفهن‏ ‏في‏ ‏الغربة‏ ‏مزنة‏ ‏ورغد‏ ‏ورهف‏ ‏وفيحاء‏ ‏ولمي‏ ‏وسلمي‏ ‏وربي‏ ‏وجمانة‏..  ‏لقد‏ ‏كانت‏ ‏مغامرات‏ ‏تحفها‏ ‏المخاطر‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏جانب‏, ‏وأي‏ ‏خطأ‏ ‏منه‏ ‏كان‏ ‏سيودي‏ ‏بحياته‏ ‏ولكنه‏ ‏كان‏ ‏حذرا‏ ‏إلي‏ ‏أقصي‏ ‏حد‏.. ‏انه‏ ‏يعشق‏ ‏الخطر‏!‏
أيضا‏ ‏فإنه‏ ‏لا‏ ‏ينسي‏ ‏الخادمات‏ ‏الأجنبيات‏ ‏التي‏ ‏كان‏ ‏يستعين‏ ‏بخدماتهن‏  ‏المختلفة‏ .. ‏وأبدا‏ ‏لم‏ ‏يتركهن‏ ‏لحال‏ ‏سبيلهن‏.. ‏جولي‏ .. ‏وأوشي‏.. ‏وشيتارا‏ .. ‏وسولان‏ .. ‏وكالا‏ .. ‏ومارديس‏.. ‏وأخريات‏ ‏لم‏ ‏يهتم‏ ‏بمعرفة‏ ‏أسمائهن‏ ‏من‏ ‏الأساس‏.. ‏كان‏ ‏يهتم‏ ‏بأشياء‏ ‏أخري‏!‏
لابد‏ ‏أن‏ ‏يكتفي‏ ‏بهذا‏ ‏القدر‏.. ‏من‏ ‏السفر‏ .. ‏ومن‏ ‏الذرية‏ .. ‏ومن‏ ‏المغامراته‏ ‏النسائية‏..  ‏ومن‏ ‏المال‏.. ‏سيفكر‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏يعود‏ ‏فيما‏ ‏سيفعله‏ ‏بالضبط‏ ‏في‏ ‏حياته‏.. ‏هل‏ ‏سيعود‏ ‏الي‏ ‏شركته‏ ‏التي‏ ‏كان‏ ‏يعمل‏ ‏بها‏ ..‏وهل‏ ‏سيكفيه‏ ‏راتبه‏ ‏الضئيل‏ ‏الذي‏ ‏كان‏ ‏يحصل‏ ‏عليه‏ ‏منها؟‏.. ‏هل‏ ‏سيفتح‏ ‏مشروعا‏ ‏يدر‏ ‏عليه‏ ‏ربحا‏ ‏وفيرا‏ .. ‏وماذا‏ ‏يضمن‏ ‏ذلك؟‏ ‏قد‏ ‏يخسر‏ ‏المشروع‏ .. ‏لقد‏ ‏ربح‏ ‏الكثير‏ ‏في‏ ‏هذه‏ ‏السنوات‏ ‏الأربع‏..   ‏هل‏ ‏يضع‏ ‏نقوده‏ ‏وتحويشة‏ ‏عمره‏ ‏في‏ ‏البنك‏ .. ‏أم‏ ‏في‏ ‏شركة‏ ‏توظيف‏ ‏أموال‏ ‏تعطيه‏ ‏فائدة‏ ‏أكبر‏ ‏؟‏.. ‏هل‏ ‏سيقنع‏ ‏بزوجته‏ ‏ويكتفي‏ ‏بها‏ ‏وبرعاية‏ ‏ابنائه‏ .. ‏تلك‏ ‏الذرية‏ ‏الصالحة‏ ‏التي‏ ‏اعطاها‏ ‏له‏ ‏الله‏ ‏ولم‏ ‏يفكر‏ ‏في‏ ‏حمده‏ ‏وشكره‏ ‏علي‏ ‏ما‏ ‏أعطاه‏ .. ‏فعلا‏ ‏هو‏ ‏مقصر‏ ‏في‏ ‏حق‏ ‏الله‏ .. ‏ينقطع‏ ‏كثيرا‏ ‏عن‏ ‏الصلاة‏.. ‏يقع‏ ‏في‏ ‏المعاصي‏ ‏كثيرا‏ .. ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏يتوب‏ .. ‏لابد‏.. ‏لكن‏.. ‏هل‏ ‏يستطيع‏ ‏التوبة‏ ‏فعلا؟‏!‏
عشرات‏ ‏من‏ ‏علامات‏ ‏الاستفهام‏ ‏كانت‏ ‏تتراقص‏ ‏أمامه‏.. ‏آلاف‏ ‏الذنوب‏ ‏والمعاصي‏ ‏التي‏ ‏ارتكبها‏ .. ‏الكثير‏ ‏والكثير‏ ‏من‏ ‏اللذات‏ ‏المحرمة‏.. ‏سأل‏ ‏نفسه‏.. ‏لماذا‏ ‏لم‏ ‏يتوب‏ ‏حتي‏ ‏الآن‏.. ‏لماذا‏ ‏لم‏ ‏يفكر‏ ‏في‏ ‏الحج‏ ‏مثلما‏ ‏فعل‏ ‏جميع‏ ‏زملاءه‏ ‏رغم‏ ‏المدة‏ ‏الطويلة‏ ‏التي‏ ‏قضاها‏ ‏في‏ ‏الغربة‏ ‏ورغم‏ ‏تيسر‏ ‏المال‏ ‏اللازم‏ ‏له‏.. ‏احتقر‏ ‏نفسه‏ ‏بشدة‏..‏
جاءته‏ ‏المضيفة‏ ‏مرة‏ ‏أخري‏ ‏قالت‏ ‏له‏: ‏احنا‏ ‏كنا‏ ‏بنقول‏ ‏إيه‏ ‏بقي؟‏..  ‏قال‏: ‏عاوز‏ ‏اشوفك‏ ‏بعد‏ ‏ما‏ ‏نوصل‏ ‏مصر‏.. ‏عاوزك‏ ‏في‏ ‏حاجة‏ ‏مهمة‏ ‏قالت‏ ‏له‏: ‏فين؟‏! ‏قال‏ ‏في‏ ‏أي‏ ‏مكان‏ ‏تحبيه‏.. ‏خدي‏ ‏تليفوني‏ ‏أهه‏ .. ‏بس‏ ‏لو‏ ‏مراتي‏ ‏ردت‏ ‏عليكي‏ ‏قولي‏ ‏لها‏ ‏انك‏ ‏سكرتيرة‏ ‏الشركة‏ ‏في‏ ‏فرع‏ ‏القاهرة‏.. ‏قالت‏ ‏له‏: ‏وكمان‏ ‏متجوز‏!.. ‏قال‏ ‏لها‏: ‏الشرع‏ ‏حلل‏ ‏أربعة‏.. ‏قالت‏: ‏باقولك‏ ‏أنا‏ ‏مخطوبة‏ .. ‏قال‏ ‏لها‏: ‏طب‏ ‏نشوف‏ ‏الموضوع‏ ‏ده‏  ‏بعدين‏!‏
لكن‏ ‏فجأة‏  ‏أخرجتهما‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏الحوار‏ ‏الآثم‏ ‏حركة‏ ‏غير‏ ‏عادية‏ ‏من‏ ‏المضيفات‏ ‏وهرولة‏ ‏من‏ ‏طاقم‏ ‏الطائرة‏ .. ‏انتبه‏ ‏جميع‏ ‏الركاب‏ .. ‏تركته‏ ‏وهرعت‏ ‏نحو‏ ‏غرفة‏ ‏القيادة‏ .. ‏سأل‏ ‏المضيفة‏ ‏التي‏ ‏كانت‏ ‏تمر‏ ‏مسرعة‏ ‏بجواره‏: ‏
ـ‏ ‏هوا‏ ‏حصل‏ ‏إيه؟‏!‏
قالت‏: ‏لا‏ ‏شئ‏.. ‏اطمئن‏..‏
لكنه‏ ‏لم‏ ‏يهدأ‏ ‏بالا‏, ‏ولم‏ ‏يطمئن‏ .. ‏تطايرت‏ ‏في‏ ‏لحظة‏ ‏كل‏ ‏مشاكله‏ ‏الشخصية‏ ‏وكل‏ ‏نوازع‏ ‏الشر‏ ‏داخله‏ .. ‏أصبح‏ ‏كل‏ ‏فكره‏ ‏محصورا‏ ‏فيما‏ ‏يحدث‏ ‏الآن‏.. ‏مرت‏ ‏جميع‏ ‏الأحداث‏ ‏التي‏ ‏تشمل‏ ‏أخطائه‏ ‏وعيوبه‏ ‏ومساوئه‏ ‏وكل‏ ‏ما‏ ‏فعله‏ ‏طوال‏ ‏مشوار‏ ‏حياته‏ ‏أمام‏ ‏عينيه‏ ‏بسرعة‏ ‏البرق‏.. ‏
ها‏ ‏هو‏ ‏معلق‏ ‏بين‏ ‏السماء‏ ‏والأرض‏ .. ‏نظر‏ ‏من‏ ‏النافذة‏ ‏فوجد‏ ‏مياه‏ ‏البحر‏ ‏الشاسعة‏ ‏أسفل‏ ‏الطائرة‏ .. ‏قد‏ ‏تكون‏ ‏النهاية‏ ‏بعد‏ ‏دقيقة‏ ‏أو‏ ‏دقيقتين‏ .. ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏هناك‏ ‏كارثة‏.. ‏يعلم‏ ‏جيدا‏ ‏أنه‏ ‏مجرم‏ ‏وسيلقي‏ ‏عقاب‏ ‏رادع‏ ‏من‏ ‏السماء‏, ‏ولكنه‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏يتوقع‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏النهاية‏ ‏سريعة‏ ‏هكذا‏.. ‏عض‏ ‏علي‏ ‏شفتيه‏ ‏نادما‏ .. ‏تذكر‏ ‏ربه‏ .. ‏كانت‏ ‏عروقه‏ ‏مشدودة‏ ‏متشبثا‏ ‏بالمقعد‏ ‏وكأنه‏ ‏طوق‏ ‏النجاة‏ ‏الأخير‏ ‏المتبقي‏ ‏لديه‏ .. ‏كشريط‏ ‏السينما‏ ‏السريع‏ ‏كانت‏ ‏أحداث‏  ‏حياته‏ ‏تتري‏ ‏أمامه‏.. ‏لا‏ ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏يراها‏ ‏ولكنها‏ ‏كانت‏ ‏ضخمة‏ ‏بحيث‏ ‏سدت‏ ‏الرؤية‏ ‏جميعها‏ ‏أمام‏ ‏عينيه‏.. ‏أين‏ ‏المفر‏.. ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يتوب‏.. ‏ولكن‏ ‏هل‏ ‏تجوز‏ ‏التوبة‏ ‏وهو‏ ‏في‏ ‏هذا‏ ‏الموقف‏ .. ‏شعر‏ ‏انه‏ ‏قريب‏ ‏جيدا‏ ‏من‏ ‏الله‏ .. ‏دعاه‏ ‏من‏ ‏قلبه‏ ‏أن‏ ‏يرحمه‏ .. ‏أن‏ ‏يلطف‏ ‏به‏.. ‏ولكن‏ ‏مازالت‏ ‏الحركة‏ ‏حوله‏ ‏متوترة‏ .. ‏يستمع‏ ‏الي‏ ‏أصوات‏ ‏ضجة‏ ‏وخبطات‏ ‏غير‏ ‏عادية‏ ‏تنبعث‏ ‏من‏ ‏محركات‏ ‏الطائرة‏.. ‏الطائرة‏ ‏تهبط‏ ‏إلي‏ ‏أسفل‏ ‏وتقترب‏ ‏من‏ ‏مياه‏ ‏البحر‏..‏
خرج‏ ‏الكابتن‏ ‏من‏ ‏كابينة‏ ‏القيادة‏ ‏معترفا‏ ‏لهم‏ ‏بالحقيقة‏ ‏حتي‏ ‏لايحدث‏ ‏ذعر‏ ‏في‏ ‏الطائرة‏.. ‏ازدادت‏ ‏الهمهمات‏.. ‏صرخات‏ ‏من‏ ‏النساء‏ ‏والأطفال‏.. ‏ضجيج‏ ‏من‏ ‏الرجال‏.. ‏طلب‏ ‏من‏ ‏الجميع‏ ‏الهدوء‏ ‏والتزام‏ ‏الصمت‏ .. ‏إن‏ ‏هناك‏ ‏عطلا‏ ‏في‏ ‏أحد‏ ‏المحركات‏ ‏والزملاء‏ ‏يحاولون‏ ‏إصلاحه‏ .. ‏رجاء‏ ‏أن‏ ‏تربطوا‏ ‏الأحزمة‏ ‏استعدادا‏ ‏لأي‏ ‏طارئ‏ ‏لا‏ ‏قدر‏ ‏الله‏.. ‏ان‏ ‏شاء‏ ‏الله‏ ‏لن‏ ‏يحدث‏ ‏أي‏ ‏مكروه‏..‏توجد‏ ‏في‏ ‏أعلي‏ ‏كل‏ ‏مقعد‏ ‏لايف‏ ‏جاكيت‏.. ‏يمكن‏ ‏استعماله‏ ‏في‏ ‏أسوأ‏ ‏الظروف‏..‏
سارع‏ ‏بربط‏ ‏حزامه‏.. ‏لملم‏ ‏اشياؤه‏ ‏وأفكاره‏ ‏المبعثرة‏.. ‏الأيدي‏ ‏كلها‏ ‏تبتهل‏ ‏بالدعاء‏ .. ‏رأي‏ ‏قمة‏  ‏الضعف‏ ‏البشري‏ ‏أمام‏ ‏عينيه‏  .. ‏لا‏ ‏يريد‏ ‏المضيفة‏ ..  ‏لايريد‏ ‏شيئا‏ ‏من‏ ‏الله‏ ‏سوي‏ ‏أن‏ ‏يعود‏ ‏سالما‏ ‏لزوجته‏ ‏الطيبة‏ ‏الصابرة‏ ‏المخلصة‏ ‏المتدينة‏ ‏ولأولاده‏ ‏الأبرياء‏ ‏الأنقياء‏ ‏الضعفاء‏ ‏الصغار‏ ‏الذين‏ ‏يحتاجونه‏ ‏بشدة‏ ‏بجوارهم‏.. ‏لايريد‏ ‏أي‏ ‏شئ‏ ‏سوي‏ ‏الخروج‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الأزمة‏ .. ‏لا‏ ‏يريد‏ ‏نساء‏ ‏أو‏ ‏أموال‏ .. ‏ماذا‏ ‏تفيد‏ ‏أموال‏ ‏الأرض‏ ‏كلها‏ ‏أمام‏ ‏لحظة‏ ‏كهذه‏ ‏يكون‏ ‏مصير‏ ‏الإنسان‏ ‏فيها‏ ‏معلقا‏ ‏بين‏ ‏السماء‏ ‏والأرض‏.. ‏لا‏ ‏يريد‏ ‏شيئا‏ ‏سوي‏ ‏أن‏ ‏يعود‏ ‏لأولاده‏ ‏سالما‏.. ‏لن‏ ‏يعود‏ ‏أبدا‏ ‏الي‏ ‏حياته‏ ‏السابقة‏ .. ‏لقد‏ ‏تغير‏ ‏تماما‏ .. ‏انخلع‏ ‏قلبه‏..‏
مرت‏ ‏اللحظات‏ ‏ثقيلة‏ ‏بطيئة‏ ‏وكأنها‏ ‏دهرا‏ .. ‏خفتت‏ ‏أصوات‏ ‏المحرك‏ ‏الصاخبة‏.. ‏خرج‏ ‏بعدها‏ ‏الكابتن‏ ‏يطمئن‏ ‏الركاب‏.. ‏الحمد‏ ‏لله‏ ‏يا‏ ‏جماعة‏ .. ‏أصلحنا‏ ‏العطل‏.. ‏اطمئنوا‏.. ‏حانوصل‏  ‏بعد‏ ‏تلت‏ ‏ساعة‏ ‏المطار‏ ‏بالسلامة‏ ‏إن‏ ‏شاء‏ ‏الله‏.‏
تنفس‏ ‏الجميع‏ ‏الصعداء‏.. ‏بعدها‏ ‏بدقائق‏.. ‏هدأ‏ ‏قليلا‏.. ‏نظر‏ ‏حوله‏ ‏باحثا‏ ‏عن‏ ‏المضيفة‏.. ‏رآها‏ ‏مقبلة‏ ‏تجاهه‏ .. ‏هش‏ ‏وبش‏ ‏وسارع‏ ‏بفك‏ ‏الحزام‏ .. ‏اقتربت‏ ‏منه‏ ‏واستندت‏ ‏علي‏ ‏مقعده‏ .. ‏قال‏ ‏لها‏: ‏احنا‏ ‏كنا‏ ‏اتفقنا‏ ‏علي‏ ‏إيه‏ ‏بقي‏.. ‏قلنا‏ ‏حانتقابل‏ ‏فين؟‏! .. ‏ومد‏ ‏يده‏ ‏ليلمس‏ ‏يدها‏.. ‏وفجأة‏.. ‏حدث‏ ‏انفجار‏ ‏هائل‏  ‏وتناثرت‏ ‏أشلاء‏ ‏الطائرة‏ ‏في‏ ‏البحر‏ ‏الأحمر‏!!‏

نشرت‏ ‏في‏  ‏جريدة‏ ‏الأهرام‏ ‏الطبعة‏ ‏العربية‏ ‏في‏ 2009‏


عندما‏ ‏يأتي‏ ‏المساء


أظــل‏   ‏طوال‏ ‏النهار‏ ‏متلهفا‏ ‏متشوقا‏ .. ‏متي‏ ‏يقبل‏ ‏الليل‏ ‏حتي‏ ‏يكون‏ ‏هناك‏ ‏مجرد‏ ‏احتمال‏ ‏أن‏ ‏تأتي‏ .. ‏أو‏ ‏حتي‏ ‏أراها‏ ‏من‏ ‏بعيد‏.. ‏زياراتها‏ ‏نادرة‏ .. ‏قليلة‏.. ‏لكنها‏ ‏عندما‏ ‏تأتي‏ ‏أظل‏ ‏متشبعا‏ ‏بهذا‏ ‏اللقاء‏ ‏لعدة‏ ‏أيام‏ ‏تالية‏.. ‏أشعر‏ ‏بدفء‏ ‏يديها‏ ‏الحانيتين‏ ‏علي‏ ‏جبهتي‏.. ‏انظر‏ ‏الي‏ ‏السماء‏ ‏ممتنا‏ ‏لهذا‏ ‏العطاء‏ ‏الكبير‏ ‏وهذه‏ ‏النفحات‏ ‏التي‏ ‏أتلقاها‏ ‏كل‏ ‏حين‏..‏
‏ ‏ها‏ ‏هي‏ ‏قد‏ ‏أقبلت‏ .. ‏رباه‏.. ‏ما‏ ‏أجملها‏.. ‏ما‏ ‏أروعها‏.. ‏أحداث‏ ‏كثيرة‏ ‏متداخلة‏ ‏متشابكة‏ ‏تسبق‏ ‏رؤيتها‏.. ‏لكنها‏ ‏عندما‏ ‏تأتي‏ ‏ينقشع‏ ‏كل‏ ‏شئ‏ ‏ولا‏ ‏يتبق‏ ‏إلا‏ ‏هي‏.. ‏وكفي‏..‏
جاءت‏ .. ‏هلت‏.. ‏أنارت‏ ‏الكون‏ ‏كله‏.. ‏جلست‏ ‏بين‏ ‏يديها‏ ‏منبهرا‏.. ‏مشدوها‏.. ‏مشتاقا‏.. ‏ربما‏ ‏لا‏ ‏أتذكر‏ ‏ماقالت‏.. ‏أو‏ ‏ربما‏ ‏هي‏ ‏لم‏ ‏تتحدث‏.. ‏لكن‏ ‏مجرد‏ ‏ظهورها‏ ‏الشفيف‏ ‏أمام‏ ‏عيني‏ ‏كان‏ ‏يكفيني‏ .. ‏
قدمت‏ ‏لي‏ ‏طبقا‏ ‏صغيرا‏ ‏به‏ ‏شئ‏ ‏أبيض‏ ‏لم‏ ‏أدر‏  ‏ما‏ ‏هو‏ .. ‏قشطة‏ .. ‏جبن‏ ‏أبيض‏.. ‏شيئا‏ ‏ما‏.. ‏ولكني‏ ‏أكاد‏ ‏أشعر‏ ‏بحلاوته‏ ‏علي‏ ‏طرف‏ ‏لساني‏ ‏حتي‏ ‏الآن‏!‏
قلت‏ ‏لنفسي‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏أنتهز‏ ‏اللحظة‏ ‏بقدر‏ ‏الإمكان‏.. ‏حدقت‏ ‏فيها‏ ‏بشدة‏.. ‏كثيرا‏..  ‏احتضنتني‏ ‏بحنان‏ ‏وحب‏.. ‏آآآه‏.. ‏أمي‏.. ‏ما‏ ‏أجملك‏ ..  ‏لماذا‏ ‏لاتكثرين‏ ‏الزيارات؟‏!..‏
اتخيلها‏ ‏تقول‏: ‏وأنت‏ ‏لماذا‏ ‏لاتزورني؟‏! ‏
اتصبب‏ ‏عرقا‏ .. ‏أتواري‏ ‏خجلا‏.. ‏كم‏ ‏أنا‏ ‏مقصر‏ ‏تجاهك‏.. ‏لكنك‏ ‏أبدا‏ ‏لاتفارقين‏ ‏خيالي‏ .. ‏دائما‏ ‏معي‏..‏أدعو‏  ‏لك‏ ‏ولوالدي‏ ‏ولأخي‏ ‏الأكبر‏ ‏في‏ ‏كل‏ ‏صلاة‏ ‏بالدعاء‏ ‏الذي‏ ‏علمتيني‏ ‏إياه‏ ‏اللهم‏ ‏اغفر‏ ‏ذنوبهم‏  ‏واخسئ‏ ‏شياطينهم‏ ‏ونور‏ ‏قبورهم‏ ‏ووسعها‏ ‏عليهم‏ ‏واجعلهم‏ ‏في‏ ‏الندي‏ ‏الأعلي‏..‏
‏..‏وفي‏ ‏كل‏ ‏موقف‏ ‏يواجهني‏ ‏في‏ ‏حياتي‏ ‏أجد‏ ‏حكمة‏ ‏أو‏ ‏كلمة‏ ‏مأثورة‏ ‏لك‏ ‏كنتي‏ ‏تستشهدين‏ ‏بها‏ ‏تعينني‏ ‏علي‏ ‏تحمل‏ ‏هذا‏ ‏الموقف‏.. ‏فهذا‏ ‏صديق‏ ‏خانني‏.. ‏أسمعك‏ ‏تقولين‏ ‏في‏ ‏أذني‏ : ‏يابني‏ ..‏علم‏ ‏علي‏ ‏صاحبك‏.. ‏وسيبه‏ (‏أتركه‏).. .. ‏وفعلا‏ .. ‏أضع‏ ‏علامة‏ *  ‏كبيرة‏ ‏عليه‏ ‏في‏ ‏ذاكرتي‏.. ‏أمسحه‏ ‏تماما‏ .. ‏أنظر‏ ‏اليه‏.. ‏لا‏ ‏أراه‏.. ‏أجدني‏ ‏قد‏ ‏ارتحت‏!‏
وإذا‏ ‏زادت‏ ‏ثقتي‏ ‏في‏ ‏أحد‏ .. ‏اتذكر‏ ‏قولها‏ ‏مطرح‏ ‏ما‏ ‏تأمن‏ ‏خون‏ ‏فأتريث‏ ‏قليلا‏ ‏في‏ ‏منح‏ ‏الأمان‏ ‏لأحد‏ ‏ما‏ .. ‏وكثيرا‏ ‏ما‏ ‏اتأكد‏ ‏انني‏ ‏كنت‏ ‏محقا‏  ‏تماما‏ ‏عندما‏ ‏تريثت‏, ‏فلا‏ ‏أشعر‏ ‏بالصدمة‏ ‏قوية‏ ‏وذلك‏ ‏لأنني‏ ‏كنت‏ ‏متحوطا‏ ‏لهذا‏ ‏الموقف‏ ‏بكلماتها‏.  ‏فقد‏ ‏تكون‏ ‏آخرة‏ ‏خدمة‏ ‏الغز‏ ‏علقة‏ ‏أو‏ ‏آخرة‏ ‏الزمر‏ ‏طيط‏ ‏عندما‏ ‏كانت‏ ‏تتحسر‏ ‏علي‏ ‏نكران‏ ‏الجميل‏ ‏أو‏ ‏جحود‏ ‏من‏ ‏أحد‏.‏
وحين‏ ‏كنت‏ ‏أشكو‏ ‏لها‏ ‏من‏ ‏صديق‏ ‏يكيد‏ ‏لي‏ ‏كانت‏ ‏تقول‏ ‏يابني‏ ‏الباني‏ ‏طالع‏ ‏والحافت‏ (‏الذي‏ ‏يحفر‏) ‏نازل‏ .. ‏فكنت‏ ‏أستمر‏ ‏في‏ ‏البناء‏.‏
وحين‏  ‏يفيض‏ ‏الكيل‏ ‏بي‏ ‏من‏ ‏شخص‏ ‏ما‏, ‏كانت‏ ‏تستشهد‏ ‏بقول‏ ‏قرأته‏ ‏لأنيس‏ ‏منصور‏ ‏اجلس‏ ‏علي‏ ‏شاطئ‏ ‏البحر‏ ‏ومد‏ ‏ساقيك‏ ‏فستأتيك‏ ‏الأمواج‏ ‏بجثة‏ ‏عدوك‏ ‏يوما‏ ‏ما‏ .. ‏وكم‏ ‏من‏ ‏الجثث‏ ‏أتت‏ ‏بها‏ ‏الأمواج‏ ‏تحت‏ ‏قدمي‏!‏
وعندما‏ ‏أحاول‏ ‏عبور‏ ‏الشارع‏ ‏وأجد‏ ‏السيارات‏ ‏مسرعة‏ .. ‏اتذكر‏ ‏خوفها‏ ‏علي‏ .. ‏ألمحها‏ ‏تقف‏ ‏كعادتها‏ ‏كلما‏ ‏انصرفت‏ ‏من‏ ‏زيارة‏ ‏لها‏ ‏ترقبني‏ ‏في‏ ‏النافذة‏ .. ‏كانت‏ ‏تقول‏ ‏لي‏ ‏امشي‏ ‏سنة‏ ‏ولاتعدي‏ ‏قنا‏ (‏أي‏ ‏قناة‏).. ..  ‏فأنتظر‏ ‏حتي‏ ‏يهدأ‏ ‏الشارع‏ ‏لأعبر‏, ‏أو‏ ‏أختار‏ ‏المضمون‏ ‏إذا‏ ‏طرح‏ ‏علي‏ ‏أمر‏ ‏نسبة‏ ‏المخاطرة‏ ‏فيه‏ ‏كبيرة‏.‏
وبمناسبة‏ ‏المشي‏ ‏فقد‏ ‏كانت‏ ‏تنبهني‏ ‏دائما‏: ‏امشي‏ ‏عدل‏  .. ‏يحتار‏ ‏عدوك‏ ‏فيك‏ ‏فأعدل‏ ‏من‏ ‏خط‏ ‏سيري‏ ‏لو‏ ‏أصابني‏ ‏الإعوجاج‏ ‏يوما‏ ‏ما‏.‏
أتذكرها‏ ‏تقول‏  ‏إذا‏ ‏سألت‏ ‏فاسأل‏ ‏الله‏ ‏و‏ ‏المال‏ ‏مال‏ ‏الله‏ ‏والنفوس‏ ‏أمانة‏ ‏يستردها‏ ‏الله‏ ‏وقتما‏ ‏شاء‏ ‏
وحينما‏ ‏أتناول‏ ‏طعامي‏ ‏واقفا‏.. ‏ابتسم‏ ‏في‏ ‏نفسي‏ ‏لقولها‏ ‏ما‏ ‏تاكلشي‏ ‏وانت‏ ‏واقف‏ ‏أحسن‏ ‏الأكل‏ ‏ينزل‏ ‏لرجليك
وعندما‏ ‏تشتد‏ ‏بي‏ ‏أزمة‏ ‏مالية‏ ‏في‏ ‏وقت‏ ‏ما‏ ‏أجد‏ ‏قول‏ ‏الإمام‏ ‏علي‏ ‏رضي‏ ‏الله‏ ‏عنه‏ ‏الذي‏ ‏كانت‏  ‏تستشهد‏ ‏به‏ ‏دائما‏ ‏لو‏ ‏كان‏ ‏الفقر‏ ‏رجلا‏ ‏لقتلته‏..‏وفعلا‏ ‏أتمني‏ ‏أحيانا‏ ‏أن‏ ‏أقتله‏!‏
واذا‏ ‏سألني‏ ‏أحد‏ ‏في‏ ‏شئ‏.. ‏وساورتني‏ ‏نفسي‏ ‏بأنه‏ ‏لايستحق‏ ‏العطاء‏ ‏أسمعها‏ ‏تهمس‏ ‏في‏ ‏أذني‏  ‏يا‏ ‏بني‏.. ‏اليد‏ ‏العليا‏ ‏خير‏ ‏من‏ ‏اليد‏ ‏السفلي‏.. ‏فأسارع‏ ‏بالعطاء‏ ‏بلا‏ ‏تردد‏.‏
عندما‏ ‏قال‏ ‏لي‏ ‏أخي‏ ‏ان‏ ‏ابنه‏ ‏يمر‏ ‏بفترة‏ ‏المراهقة‏ ‏وأخذ‏ ‏يشكو‏ ‏لي‏ ‏منه‏ .. ‏تذكرتها‏ ‏وهي‏ ‏تقول‏ ‏إن‏ ‏كبر‏ ‏إبنك‏.. ‏خاويه‏ .. ‏لماذا‏ ‏لا‏ ‏تتخذه‏ ‏أخا‏ ‏وصديقا‏ ‏يا‏ ‏أخي‏ ‏وتقومان‏ ‏معا‏ ‏بحل‏ ‏كل‏ ‏المشكلات‏ ‏العالقة؟‏! ‏وعن‏ ‏حبها‏ ‏الجارف‏ ‏للأحفاد‏ ‏كانت‏ ‏تقول‏ ‏أعز‏ ‏الولد‏ ‏ولد‏ ‏الولد
و‏ ‏اتذكر‏ ‏أمي‏ ‏عندما‏ ‏كانت‏ ‏تقول‏  ‏ان‏ ‏المرأة‏ ‏تضع‏ ‏مخلتين‏ (‏حقيبتين‏) ‏في‏ ‏رقبتها‏ ‏واحدة‏ ‏من‏ ‏الأمام‏ ‏والأخري‏ ‏من‏ ‏الخلف‏ .. ‏فتضع‏ ‏الأشياء‏ ‏الطيبة‏ ‏في‏ ‏الخلف‏ ‏والأشياء‏ ‏السيئة‏ ‏في‏ ‏المخلة‏ ‏الأمامية‏ ‏حتي‏ ‏تراها‏ ‏دائما‏ .. ‏فلا‏ ‏أفاجئ‏ ‏بنسيان‏ ‏ما‏ ‏قدمته‏. ‏أقول‏ .. ‏عادي‏!! ‏فأهدأ‏ ‏بالا‏!‏
وعندما‏ ‏أجد‏ ‏أحد‏ ‏معارفي‏ ‏أو‏ ‏أقاربي‏ ‏يسير‏ ‏في‏ ‏طريق‏ ‏غير‏ ‏مأمون‏ ‏العواقب‏ ‏ولا‏ ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏يستمع‏ ‏لنصح‏ ‏أحد‏ .. ‏لاأجد‏ ‏ما‏ ‏يعبر‏ ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏الموقف‏ ‏إلا‏ ‏قولها‏ ‏اللي‏ ‏يشيل‏ ‏قربة‏ ‏مخرومة‏ ‏تنقط‏ ‏علي‏ ‏خلاقاته‏ (‏ملابسه‏).. ‏لذا‏ ‏فإنني‏ ‏دائما‏ ‏ما‏ ‏أحاول‏ ‏الحفاظ‏ ‏علي‏ ‏خلاقاتي‏ ‏جافة‏ ‏وغير‏ ‏مبلولة‏  ‏من‏ ‏آثار‏ ‏التنقيط‏.!‏
دائما‏ ‏انت‏ ‏معي‏ ‏يا‏ ‏أمي‏.. ‏في‏ ‏داخلي‏.. ‏تسكنين‏ ‏في‏ ‏مشاعري‏ .. ‏اري‏ ‏الدنيا‏ ‏بعيونك‏.. ‏طيفك‏ ‏الحنون‏ ‏يحيط‏ ‏بي‏.. ‏اسمع‏ ‏دعواتك‏ ‏لي‏ ‏ولأخوتي‏ ‏بأن‏ ‏نتجمع‏ ‏دائما‏ ‏وألا‏ ‏يفرقنا‏ ‏شئ‏.‏
أتذكر‏ ‏الأستاذ‏ ‏عبدالوهاب‏ ‏مطاوع‏ ‏رحمه‏ ‏الله‏ (‏وكان‏ ‏لايفوتك‏ ‏بريد‏ ‏جمعة‏ ‏إلا‏ ‏وتقرأينه‏ ‏بشغف‏) ‏عندما‏ ‏دعا‏ ‏لك‏ ‏في‏ ‏بريد‏ ‏الأهرام‏ ‏حيث‏ ‏كتب‏: ‏يرحمها‏ ‏الله‏ ‏رحمة‏ ‏واسعة‏ ‏ويرحم‏ ‏كل‏ ‏مثيلاتها‏ ‏من‏ ‏الأمهات‏ ‏الطيبات‏ ‏اللاتي‏ ‏يضئن‏ ‏حياة‏ ‏أبنائهن‏ ‏وشركاء‏ ‏الحياة‏ ‏بعطائهن‏ ‏الصامت‏ ‏المخلص‏ ‏حتي‏ ‏نهاية‏ ‏العمر‏.‏
‏.. ‏ها‏ ‏هو‏ ‏المساء‏ ‏قد‏ ‏أقبل‏ .. ‏أغمض‏ ‏عيني‏ ‏في‏ ‏اشتياق‏ .. ‏مهرولا‏ ‏فوق‏ ‏أضغاث‏ ‏الأحلام‏ ‏والتهويمات‏ ‏حتي‏ ‏أصل‏ ‏الي‏ ‏الحلم‏ ‏الكبير‏ ‏الذي‏ ‏انتظره‏ ‏دائما‏ ‏أن‏ ‏يغمرني‏  ‏النور‏..‏
ان‏ ‏أراك‏ ‏يا‏ ‏أمي‏!!‏

نشرت‏ ‏في‏ ‏الأهرام‏  ‏الطبعة‏ ‏العربية‏ ‏في‏ 14 / 4 / 2007‏


 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Best Buy Coupons تعريب : ق,ب,م