كــانت
البداية علي ورقة بيضاء مقواه كبيرة .. علي مكتب زجاجي فخم
كانت تفاصيلي الدقيقة تتسرب من سن قلم في يد المهندس
الإنشائي الكبير.. وكانت قبل ذلك بفترة وجيزة أوراق مالية
كثيرة تتنقل من يد إلي يد من أجلي.. نقود في السر.. وأخري
في العلانية.. وعلي مساحة كبيرة من الأرض بأحد الأحياء
الراقية كان العمل يتم علي قدم وساق في الحفر .. وعلي جانبي
الشارع تكومت شكائر الأسمنت وأسياخ الحديد وأكوام من الرمال
والزلط..
كنت
منذ هذه اللحظة قد بدأت في تخيل الشكل العام لي.. حقا
سأكون أجمل عمارة في هذا الحي الراقي كله.. أطول عمارة ..
يسكنني أغني الناس.. أحسست بالتيه والخيلاء , ولا أخفي عليكم
والغرور أيضا.. ولكني كتمت كل
هذه المشاعر في نفسي.. لم يأن أوانها بعد.. مان الحفر كل
يوم يزداد عمقا حتي أشار المهندس المسئول بالكف عن الحفر
وبدأ العمال والماكينات في صب
الأساس.. أسمنت جيد .. مسلح قوي متماسك.. العمل يسير بعزم
ونشاط.. اكتمل الأساس.. وبدأ بناء الدور الأول.. وانهالت عروض
وطلبات التملك والإيجار علي أصحابي.. لكنهم في البداية اجتمعوا
ليحددو أسعار السكن بي.. إعلان صغير عني وعن ثماني عمارات أخريات
يمتلكهن نفس الأشخاص, ولكنني سأكون بكل تأكيد أجملهن.. هكذا
سمعت أحد المهندسين المشتركين في التنفيذ يقول لزميله.. كان هذا
الإعلان الصغير كافيا لأن تحجز كل شققي..بل والعمارات الثماني
الأخريات.. أزمة الإسكان محتدة.. الكل يبحث عن سعادته وسعادة
أسرته .. والأغنياء زادوا في البلد.. والباحثون عن الراحة
والرفاهية لا يبخلون بمال علي سعادتهم أيا كان هذا المال..
والسكن في قلب القاهرة في شقة واسعة أمنية يتمناها الكثيرون..
كانت آلاف الجنيهات تنساب من الأيدي المتعطشة للسكن إلي أيدي
الملاك وكأنها قروش قليلة.. ولم لا.. فالأرض التي أقمت عليها
وصل سعر المتر فيها إلي رقم قياسي.. كنت أنا سعيدة بكل
ذلك.. وكلما ارتفع ثمن شققي كلما ازددت زهوا.. وكلما ارتفع
طابق مني ازددت غرورا.. نعم .. فقد ارتفعت قامتي .. كنت أنظر
الي العمارات المحيطة بي من أسفل في حقد شديد .. نظرات
ملتهبة بالكراهية .. متي يأتي اليوم الذي تتساوي فيه قامتي
معهم.. بل أعلو عنهم وأفوقهم.. يا لها من فرحة.. يا له من
شعور بالإنتشاء ذلك الذي سيخالجني في ذلك اليوم.. احساس رائع
أشعر به الآن ويشعر به ملاكي أيضا.. ها هي أحلامي قد تحقق
معظمها .. نظرات الإعجاب تحيطني من كل جانب .. الأمنيات تراود
القلوب كلما مر جماعة من الناس في الشارع أمامي.. الكل
يتمني..ولكن سعداء الحظ فقط هم الذين سيأتي بهم قدرهم
إلي..وستمكنهم قدرتهم المالية علي امتلاك شقة بي.. مغرورة
أنا.. ألا تلاحظون ذلك؟.. وكذلك أصحابي يتمتعون بنفس الصفة..
ارتفعت
وعلوت.. حتي أصبحت واحدة من أعلي عمارات الحي كله.. وغلا
ثمن شققي الباقية التي لم تبع حتي الآن.. تحقق حلمي أو
اقترب من التحقق.
وهل
هو البناء قد انتهي.. بدأت التشطيبات النهائية.. لكنني الآن
أود الاعتراف لكم بشئ بيني وبينكم.. تأكدوا انني صادقة تماما
في هذا.. ومضطرة إلي قوله بعدما شعرت به.. إنني أشعر ان
الحديد المسلح الذي بنيت به الطوابق العليا مني ليس هو
الحديد الذي تم استخدامه في الأساس.. ليس بنفس القوة والصلابة
.. كذلك الأسمنت .. مذاقه غريب أيضا .. التماسك ضعيف .. لذلك
فقد شعرت ببعض التنميل في الأجزاء السفلية مني.. أشعر بوخزات
ألم.. أحاول التهرب من التفكير في هذا الموضوع.. أحاول أن
أبرر هذا الموقف بنفس طريقة أصحابي.. كل عمارات البلد تبني
هكذا.. هذا هو الموجود في السوق.. ربما يكون تحديث في فن
البناء.. يجوز تطوير.. خامات جديدة مستوردة .. انني ما زلت
واقفة.. بخير.. لا شئ بي علي الإطلاق.. عروس الحي أنا..
هكذا يقول الناس عني.. وها هم يضعون اللمسات الأخيرة علي
واجهتي.. ويزينون الشرفات بالزرع الأخضر الجميل..
آآآآه
.. لا أقوي علي الاحتمال أكثر من ذلك.. لقد ازداد الألم
بي.. أشعر ببعض أعمدتي تئن بشدة.. تكاد تنفجر من شدة الثقل
المحمل عليها.. وفجأة فضحني الغلاف الرقيق الذي يطلي أعمدتي ..
لقد تشققت وتقشرت وظهرت خطوط مائلة في الحوائط تنبئ عما
تحتها.. للأمانة هذا حدث في بعض الأعمدة والحوائط وليس كلها..
بعض العمال اكتشفوا ما حدث.. سارعوا بإبلاغ باقي زملائهم..
نزل العمال مني ووقفوا بعيدا ينظرون إلي بخوف.. اتصلوا بأصحابي
الذين جاءوا مسرعين بسياراتهم الفارهة ووقفوا بعيدا عني
بملابسهم الكاملة وعطرهم الفواح يتشاورون ويتهامسون وهم يشيرون
إلي ويقتربون مني بحذر..
عرف
السكان المحيطون بي القصة.. يا لعاري.. سري الخبر مسري النار
في الهشيم.. الذين دفعوا مقدم التمليك جاءوا مسرعين يطالبون
باسترداد نقودهم.. ارحموني يا قوم..
لسوء
حظي أن صحفيا مغرضا يهوي البحث عن الفضائح كان قريبا مني
لحظة معرفة الخبر فأتي مسرعا بقلمه وأوراقه وجاء معه بمصور
صوب كاميرته نحوي مركزا علي الشقوق والقشور..وفي صباح اليوم
التالي عرفت انه نشر صفحة كاملة عني في أكبر الصحف وأوسعها
انتشارا.. فضيحة عروس الحي الراقي .. مانشيت كبير بطول الصفحة..
فعلا .. يا للفضيحة .. يا للهول كما قالها يوسف وهبي.. كل
البلد والبلاد المجاورة عرفوا قصتي..أخذت الجرائد تتسابق لمعرفة
المزيد من أخباري وأسراري.. المجالس المحلية.. المحافظة.. العضو
الشرس في مجلس الشعب فتح نيرانه علي الحكومة مهاجما الفساد..
الجميع يناقشون مشكلتي.
التف
الناس حولي من كل جانب طوال ساعات النهار.. احاطتني النظرات
.. هذه المرة ليست نظرات اعجاب.. هذه المرة لا توجد أماني
في النفوس وانما رعب وفزع في العيون .. هل هي شفقة أم
شماتة؟.. لا أدري.. أصبحت لا أستطيع تحمل نظراتهم هذه ..
تزعجني .. اسمع كلماتهم تؤلمني أكثر.. كأنها معاول تهدم في
صرحي الشامخ..
كل
المسئولين أتوا لتفقدي.. يعاينونني.. يفحصونني.. ابتداء من
المحافظ وحتي أصغر مسئول.. الكل يريد معرفة قصتي.. كنت أري
السيارات تهدئ من سرعتها عندما تمر من أمامي وتطل الرؤوس من
النوافذ لتلقي نظرة علي.. يتبادل أصحابها معلوماتهم عني.
مش هيه دي العمارة اللي حتقع .. تلك هي بداية
أي حديث يدور أمامي .. يقول أحدهم : لقد تكلفت عدة ملايين..
وآخر يقول يا عم دا مال حرام.. وثالث يقول: من قلة ذمة
المقاولين.. وآخر لا ياحاج.. دا بيقولوا ان المهندس هو
المسئول.. وآخر : الحديد المستورد أكيد هوا السبب.. وسيدة تقول:
خسارة حقيقي.. ثروة ضايعة.. دا غضب من ربنا.. وآخر يقول: أهو أنا كنت ها احجز شقة فيها..
لكن الحمد لله علي آخر لحظة ربنا أنقذني.. يا راجل دول
تمن عمدان فرقعوا فيها.. وآخر يقول: دا افترا شوف سعر المتر
في الشقق فيها وصل لكام.. دا فيها حمام سباحة علي السطوح
متكلف الشئ الفلاني .. و .. و أقوال كثيرة.. عبارات وعبارات
تمزقني مثل السكاكين .. يا لقسوتكم.. يا لتحجر قلوبكم!!
ولكن
برغم كل ما سببه ما حدث لي من آلام نفسية .. ورغم كل
هذا العذاب.. لا أخفيكم سرا إنه حمل لي في طياته بعض
السعادة لي.. كل هذه الشهرة.. كل هذا المجد يمثل قمة
امنياتي, ولكن آه لو كانت هذه الشهرة وهذا المجد بغير ذلك
الألم.. أن تكون شهرة لسبب آخر غير هذه العيوب الخطيرة في..
لقد هرب مني كل الذين كانوا يريدون سكناي.. حتي الجيران ..
لقد صدر أمر بإخلاء عدة عمارات مجاورة لي.. وتم إجبار ملاكي
علي تسكين كل هؤلاء الجيران بالفنادق علي نفقتهم الخاصة لحين
حل مشكلتي.. أبعدوهم عني.. من يصدق هذا .. أصبحت كمريضة الجرب
أو الإيدز الجميع يهرب مني ويبتعد عني.. من يصدق هذا؟!..
أشعر بالوحدة.. بأنني منبوذة من الجميع .. تعالت الأصوات مدوية
تطالب بهدمي فورا من أجل الحفاظ علي أرواح الجيران والسكان..
وروحي أنا ألا تهم أحدا؟! كلا انني أرفض هذا الاقتراح رفضا
باتا.. من غير الممكن أن يكون
مصيري الهدم بعد كل هذا المجهود الذي بذل في.. أمن الممكن
أن أعود الي مستوي الأرض مرة أخري وأصبح مجرد حطام
وركام..كلا .. كلا أرفض هذا المصير بشدة .. وأيضا رفض أصحابي
ورفضت بعض الأصوات العاقلة الأخري هذا الاقتراح.. واستعانوا
بمهندسين آخرين محايدين كتبوا تقارير تفيد انه من الممكن
إصلاح العيوب الهندسية الموجودة بي دون اللجوء إلي الهدم..
وكان هناك اقتراح بهدم الأربعة أدوار العلوية مني.. قالوا ان
هذا سيخفف الضغط علي.. سيقصرون قامتي .. يا للفضيحة.. سأصبح
أقل طولا من جيراني.. سينظرون إلي من أعلي باستهزاء.. لا
أقبل ذلك .. ولحسن حظي أن المهندسين أجمعوا علي ان هذا
الاقتراح ربما يؤثر علي سلامتي بالكامل.. وألغيت الفكرة.. أو
بمعني أصح تم تأجيلها للدراسة والبحث.. تم طرح فكرة أخري من
لجنة مختصة وهي تكليف أصحابي بعمل صلبات حديدية وأعمدة إضافية
تخترقني من الداخل وتحيط بي من الخارج لتدعيمي.. ولاقت هذه
الفكرة قبولا من الجميع.. وبدأ عمل الصلبات والأعمدة.. وتمت
تغطيتي بغطاء كبير أسود من أعلي رأسي إلي أسفل قواعدي.. ما
هذا؟.. عروس الحي الراقي ترتدي رداء أسود!! .. يا لقسوة
الأقدار..
وعلي
الرغم من محاولات بث الاطمئنان من المسئولين للرأي العام في
الصحف والمجلات إلا ان نظرات المتطفلين لم تنتهي.. وما زالت
الناس خائفة .. ولكن ما يخيفني أكثر هو ان الأخبار التي
تنشر عني في الصحف بدأت تقل بل تختفي في بعض الأيام..
هناك قضايا أخري بدأت تشغل الناس..
ولكن
ما أسعدني ان قصتي عادت إلي الأضواء مرة أخري بعد ان اهتم
رئيس الجمهورية شخصيا بقصتي عندما كان يفتتح أحد المشروعات
بالمحافظة فسأل المحافظ أمام الصحفيين
عما تم في موضوعي.. وعادت الأقلام تفتش عن أخبار جديدة
وخفايا لم تنشر من قبل وحوارات مع ملاكي والمؤيدين والمعارضين
والجيران.. عاد الاهتمام من جديد.. وأصبح مجرد ذكر اسمي يلفت
النظر الي الحي كله.. أصبحت رمزا للمنطقة.. أشهر عمارة في
مصر أنا الآن, ولكن ملاكي هم أتعس الناس.. وكذلك المهندسون
والمقاولون وحاجزو الشقق والجيران والمسئولون عني.. لقد قررت
المحكمة حبس مدير المشروع والمهندس الذي أشرف علي تنفيذي
وواحد من ملاكي.. وما زالت هناك أصوات حاقدة تطالب بهدمي..
سمعت
تصريحا من مسئول بالمحافظة يؤكد فيه انني الآن أصبحت سليمة
مائة في المائة, وإن الخطورة قد زالت عني تماما.. ليت كل
الناس يسمعون هذا التصريح ويصدقونه.. فأنا ما زلت فارغة ..
تخاف الأقدام الاقتراب مني.. أشعر بالضمادات تحاصرني.. تلفني..
أشعر كأنني إنسان عموده الفقري تلف فربطوا حوله الأحزمة
وألواح الخشب لتساعده علي الوقوف..
أصبح حلم يوم الزفاف الذي تحلم به أي عروس
بعيد المنال عني.. كنت أحلم بالافتتاح الكبير يوم أن تسكن
كل شققي بكبار القوم وأزهو بين جيراني.. ولكن يبدو انني
سأظل طويلا هكذا.. عروس بلا زفاف!!
* نشرت في جريدة المساء
0 التعليقات:
إرسال تعليق