وقــف الجميع أمام لوحة الكترونية مضيئة
تحتوي علي أرقام وبيانات.. عيونهم شاخصة الي هذه اللوحة..
تتحرك مآقيهم مع حركة الأرقام
والكلمات التي تضاف أو تحذف.. كان الوقت يقترب من منتصف
الليل .. لسعة البرد تلف جميع الواقفين وتحتويهم.. منهم من كان يحتمي ببالطو صوف أو
جاكيت جلد يرفع ياقته حتي أذنيه..
وعلي
الرغم من هذا الزحام الشديد فإن الحركة كانت تتسم بشيء من
الود وعدم التدافع .. الكل في الانتظار .. القلق والتوتر علي
وجوه جميع الواقفين.. أكثر ما يلفت النظر هو كثرة نظر
الواقفين إلي ساعاتهم وانشغال الكثير منهم بالحديث في
التليفونات المحمولة..
ـ
إمتي حتوصل طيارة جدة؟!
ـ
الساعة اتناشر ونص.
ـ
دا كان ميعادها اتناشر
ـ
معلهش .. اتأخرت شوية
بعدها
يسأل نفس السؤال شخص آخر للشخص الذي سأل فيرد عليه بنفس
الرد.. وتتسع حلقة الأسئلة والإجابات ليتبادل الواقفون الحوار
الخاطف والسريع حول الطائرات والتأخير والمقارنة بين شركات
الطيران الوطنية والأجنبية وتقويم كل منها.
وقف
صبيان ولد وبنت مع سيدة عجوز يحملان باقة زهور كبيرة
ويتشبثان بالسور الحديدي.. يحاولان النظر الي بعيد علي أمل أن يأتي من ينتظرونه ..
قالت
السيدة العجوز: لسه بدري يا عيال فاضل نص ساعة.
داخل
كل شخص من الواقفين قصة طويلة.. ابناء ينتظرون عودة أبيهم
من الحج.. زوجة تنتظر زوجها المدرس القادم من الخليج لقضاء إجازته السنوية..
رئيس نادي وبعض المسئولين في انتظار فريق أجنبي يصل للعب مباراة
ودية في كرة السلة.. خادمة تنتظر سيدتها التي اتصلت بها
وأوصتها بأن تنتظرها في المطار مع السائق.. أهالي قرية
ينتظرون عودة عمدتهم من الحج..
شريك ينتظر عودة شريكه محملا بالبضاعة التي يبيعانها في
محلهما المشترك.. رجل وابناؤه ينتظرون عودة الزوجة التي ذهبت تحج مع زملائها في العمل.
وجوه
عديدة تحمل الكثير من المشاعر والتعبيرات.. الحركة تدور بطيئة
.. الجميع ينظرون الي جنود الأمن
الذين يقفون أمام الأسوار المحيطة بصالة الوصول لمنع
التدافع .. بدأت حركة الجميع في الاضطراب عندما ظهرت علي لوحة
البيانات المكتوبة باللغة الانجليزية فقط أن الطائرة قد وصلت..
تزداد الحركة ويزداد التدافع
نحو اللوحة ونحو الجزء المفتوح من السور الحديدي الذي
سيخرج منه القادمون .. ونسمع كلمة وصلت.. وصلت تتكرر هنا وهناك .. ليس كل الواقفين في
انتظار طائرة واحدة.. فهناك
طائرة قادمة من بيروت وأخري من جنوب إفريقيا وثالثة من المغرب
وهكذا.. ولكن طائرة جدة بالذات
يظهر الاهتمام العام بها.. فهي من ضمن طائرات الفوج الأول
الذي يصل من السعودية بعد رحلة الحج الشاقة التي حدث فيها
التدافع عند رمي الجمرات وسقوط
العديد من الضحايا والمصابين.. وبرغم تأكدهم ان اقاربهم لم
يصبهم أذي إلا إن القلق يسيطر علي الجميع..
ـ
هيا الطيارة وصلت.. أمال ماطلعوش ليه؟
هكذا
سأل رجل بسيط موجها سؤاله للا أحد وهو متأكد من انه لن
يتلقي ردا من الواقفين لأن كلا منهم مشغول بحاله.
ـ
هو مش فيه اجراءات جوا بعد الوصول (قالها شخص متنشيا
الي حد كبير) ولكن رد عليه شخص آخر:
ـ
مش قالوا ان الاجراءات كلها تتم في الطيارة؟
ـ
أهو كلام والسلام (قالها رجل كبير)
صاح
فتي صغير: أهو الطيار خرج..
وفعلا
خرج الطيار من بين الجموع وهو شاب في حوالي التاسعة
والعشرين من عمره ناصع البياض يحمل حقيبة صغيرة ويسير بخفة ونشاط
ولكن تبدو علي وجهه علامات مشقة السفر التي اعتاد عليها
بالتأكيد.. تبعته المضيفات بزيهن المألوف والإيشارب المشجر
الملفوف حول رقبتهن.. تشعر عندما تراهن انهن قد تم اختيارهن
علي الفرازة .. أو نسخة واحدة تم استنساخها من شدة الشبه
بينهن في الطول والملامح وطريقة المشي الجادة.
بدأت
بعض السيدات في الظهور في آخر الصالة..
صاحت
سيدة لفتاة بجوارها: أمك هناك أهه يا بت.. صاحت الفتاة صيحة
سمعها جميع الواقفين: أمه كانت الفتاة تتقافز فرحة تريد أن
تطير لتحتضن امها.. السور الحديدي يمنعها .. لم تطق انتظار
هذه الدقائق.. دفعت الجنود وهرولت إلي أمها التي فتحت لها
احضانها إلي أقصي حد ممكن لتمطر كل منهما الأخري بالقبلات
الحارة والدموع الساخنة.
ـ
أمال فين باقي الناس.. هما بيطلعوهم بالقطارة؟!
قالها
شخص يبدو ان صبره بدأ ينفد .. فالساعة تعدت الواحدة والربع
صباحا..
قال
له صديقه: يا أخي أصبر.. أهم
بدأوا يظهروا.
ظهر
رجل متقدم في السن .. فتصايحت بناته وزوجته وأسرع اليهن
بالعربة التي يدفعها أمامه محملة بالهدايا واستقبلنه بالقبلات
والاحضان.
بعدها
خرجت سيدة يبدو أن لها شعبية كبيرة إذ بمجرد ظهورها تعالت
الزغاريد والهتافات بسلامة وصولها من كثيرين, ثم ظهر رجل
وزوجته يدفعان العربة التي تحمل بطانية ومكنسة كهربائية وعدة
شنط كبيرة ولم يكن هناك أحد في استقبالهما, ثم ظهر شخص يرتدي جلبابا أبيض وله
شارب يذكرك بالزعيم أحمد عرابي يدفع عربة عليها جوال كبير
يكاد يقترب من حجم بالة القطن مما أثار ضحكات معظم
المنتظرين وأخرجهم من حالة التوتر التي كانوا فيها لكنه نظر
اليهم بازدراء وخرج بسرعة ويبدو أنه لم يكن هناك أحد في
انتظاره لكنه خرج بخطوات واثقة تعرف طريقها جيدا.
وأخيرا..
ظهر أبي قادما من بعيد يسير ببطء ويتلفت حوله باحثا عنا ..
محاولا دفع العربة الصغيرة أمامه حيث تتأرجح منه يمينا ويسارا
.. حاولت الدخول اليه لكن الجندي قال لي انتظر .. سيأتي اليك
لكنني دفعته جانبا وأسرعت اليه أقبله واحتضنه وأساعده في دفع
العربة الي الخارج.
وتمضي
الأيام سريعة.. ويرحل أبي في العام التالي في ثالث أيام عيد
الفطر المبارك.. رحمة الله عليك يا أبي.. وفي كل مرة اقرأ
فيها أخبارا عن عودة أفواج الحجاج يعود هذا المشهد بكل
تفاصيله الدقيقة أمام عيني حتي أنني أكاد أشعر انني ما زلت
في انتظار عودة أبي!!
نشرت في جريدة الأهرام الطبعة العربية في 7 / 5 / 2008
0 التعليقات:
إرسال تعليق