أظــل طوال النهار متلهفا متشوقا .. متي
يقبل الليل حتي يكون هناك مجرد احتمال أن تأتي .. أو حتي
أراها من بعيد.. زياراتها نادرة .. قليلة.. لكنها عندما تأتي
أظل متشبعا بهذا اللقاء لعدة أيام تالية.. أشعر بدفء يديها
الحانيتين علي جبهتي.. انظر الي السماء ممتنا لهذا العطاء
الكبير وهذه النفحات التي أتلقاها كل حين..
ها هي قد أقبلت .. رباه.. ما أجملها.. ما
أروعها.. أحداث كثيرة متداخلة متشابكة تسبق رؤيتها.. لكنها
عندما تأتي ينقشع كل شئ ولا يتبق إلا هي.. وكفي..
جاءت
.. هلت.. أنارت الكون كله.. جلست بين يديها منبهرا.. مشدوها..
مشتاقا.. ربما لا أتذكر ماقالت.. أو ربما هي لم تتحدث.. لكن
مجرد ظهورها الشفيف أمام عيني كان يكفيني ..
قدمت
لي طبقا صغيرا به شئ أبيض لم أدر
ما هو .. قشطة .. جبن أبيض.. شيئا ما.. ولكني أكاد
أشعر بحلاوته علي طرف لساني حتي الآن!
قلت
لنفسي لابد أن أنتهز اللحظة بقدر الإمكان.. حدقت فيها بشدة..
كثيرا.. احتضنتني بحنان وحب..
آآآه.. أمي.. ما أجملك .. لماذا
لاتكثرين الزيارات؟!..
اتخيلها
تقول: وأنت لماذا لاتزورني؟!
اتصبب
عرقا .. أتواري خجلا.. كم أنا مقصر تجاهك.. لكنك أبدا
لاتفارقين خيالي .. دائما معي..أدعو
لك ولوالدي ولأخي الأكبر في كل صلاة بالدعاء الذي
علمتيني إياه اللهم اغفر ذنوبهم
واخسئ شياطينهم ونور قبورهم ووسعها عليهم واجعلهم في
الندي الأعلي..
..وفي كل موقف يواجهني في حياتي أجد حكمة أو
كلمة مأثورة لك كنتي تستشهدين بها تعينني علي تحمل هذا
الموقف.. فهذا صديق خانني.. أسمعك تقولين في أذني : يابني
..علم علي صاحبك.. وسيبه (أتركه).. .. وفعلا .. أضع علامة * كبيرة عليه في ذاكرتي.. أمسحه
تماما .. أنظر اليه.. لا أراه.. أجدني قد ارتحت!
وإذا
زادت ثقتي في أحد .. اتذكر قولها مطرح ما تأمن خون فأتريث
قليلا في منح الأمان لأحد ما .. وكثيرا ما اتأكد انني كنت
محقا تماما عندما تريثت, فلا
أشعر بالصدمة قوية وذلك لأنني كنت متحوطا لهذا الموقف
بكلماتها. فقد تكون آخرة خدمة
الغز علقة أو آخرة الزمر طيط عندما كانت تتحسر علي نكران
الجميل أو جحود من أحد.
وحين
كنت أشكو لها من صديق يكيد لي كانت تقول يابني الباني
طالع والحافت (الذي يحفر) نازل .. فكنت أستمر في البناء.
وحين يفيض الكيل بي من شخص ما, كانت
تستشهد بقول قرأته لأنيس منصور اجلس علي شاطئ البحر ومد
ساقيك فستأتيك الأمواج بجثة عدوك يوما ما .. وكم من الجثث
أتت بها الأمواج تحت قدمي!
وعندما
أحاول عبور الشارع وأجد السيارات مسرعة .. اتذكر خوفها علي ..
ألمحها تقف كعادتها كلما انصرفت من زيارة لها ترقبني في
النافذة .. كانت تقول لي امشي سنة ولاتعدي قنا (أي قناة)..
.. فأنتظر حتي يهدأ الشارع
لأعبر, أو أختار المضمون إذا طرح علي أمر نسبة المخاطرة فيه
كبيرة.
وبمناسبة
المشي فقد كانت تنبهني دائما: امشي عدل .. يحتار عدوك فيك فأعدل من خط
سيري لو أصابني الإعوجاج يوما ما.
أتذكرها
تقول إذا سألت فاسأل الله و
المال مال الله والنفوس أمانة يستردها الله وقتما شاء
وحينما
أتناول طعامي واقفا.. ابتسم في نفسي لقولها ما تاكلشي وانت
واقف أحسن الأكل ينزل لرجليك
وعندما
تشتد بي أزمة مالية في وقت ما أجد قول الإمام علي رضي
الله عنه الذي كانت تستشهد به
دائما لو كان الفقر رجلا لقتلته..وفعلا أتمني أحيانا أن
أقتله!
واذا
سألني أحد في شئ.. وساورتني نفسي بأنه لايستحق العطاء أسمعها
تهمس في أذني يا بني.. اليد
العليا خير من اليد السفلي.. فأسارع بالعطاء بلا تردد.
عندما
قال لي أخي ان ابنه يمر بفترة المراهقة وأخذ يشكو لي منه
.. تذكرتها وهي تقول إن كبر إبنك.. خاويه .. لماذا لا تتخذه
أخا وصديقا يا أخي وتقومان معا بحل كل المشكلات العالقة؟!
وعن حبها الجارف للأحفاد كانت تقول أعز الولد ولد الولد
و
اتذكر أمي عندما كانت تقول ان
المرأة تضع مخلتين (حقيبتين) في رقبتها واحدة من الأمام
والأخري من الخلف .. فتضع الأشياء الطيبة في الخلف والأشياء
السيئة في المخلة الأمامية حتي تراها دائما .. فلا أفاجئ
بنسيان ما قدمته. أقول .. عادي!! فأهدأ بالا!
وعندما
أجد أحد معارفي أو أقاربي يسير في طريق غير مأمون العواقب
ولا يريد أن يستمع لنصح أحد .. لاأجد ما يعبر عن هذا
الموقف إلا قولها اللي يشيل قربة مخرومة تنقط علي خلاقاته
(ملابسه).. لذا فإنني دائما ما أحاول الحفاظ علي خلاقاتي جافة
وغير مبلولة من آثار التنقيط.!
دائما
انت معي يا أمي.. في داخلي.. تسكنين في مشاعري .. اري
الدنيا بعيونك.. طيفك الحنون يحيط بي.. اسمع دعواتك لي
ولأخوتي بأن نتجمع دائما وألا يفرقنا شئ.
أتذكر
الأستاذ عبدالوهاب مطاوع رحمه الله (وكان لايفوتك بريد جمعة
إلا وتقرأينه بشغف) عندما دعا لك في بريد الأهرام حيث كتب:
يرحمها الله رحمة واسعة ويرحم كل مثيلاتها من الأمهات الطيبات
اللاتي يضئن حياة أبنائهن وشركاء الحياة بعطائهن الصامت المخلص
حتي نهاية العمر.
.. ها هو المساء قد أقبل .. أغمض عيني في
اشتياق .. مهرولا فوق أضغاث الأحلام والتهويمات حتي أصل الي
الحلم الكبير الذي انتظره دائما أن يغمرني النور..
ان
أراك يا أمي!!
نشرت في الأهرام الطبعة العربية في 14 / 4 / 2007
2 التعليقات:
جميييييييييييل أوي يا أستاذ مجدي تسلم إيدك
اللهم اغفر لها وارحمها وأسكنها فسيح جناتك
إرسال تعليق